عن الصين العظمى.. أكتب

عن الصين العظمى.. أكتب

سجلتُ في هذا المكان قبل أيام ملاحظاتي عن زيارة الرئيس الصيني «شي» للولايات المتحدة، كنت قد أبديت اهتماماً بهذه الزيارة الى حد لفت انتباه أصدقاء كثيرين. أما مبررات هذا الاهتمام فهي في مجملها تلك الملاحظات التي أوردت بعضاً منها في مقالة سابقة.


كتبت عن الرئيس الصيني الذي ذهب إلى أميركا وفي يده ولأول مرة «أوراق ــ موقف» position papers تتعلق بأهداف السياسة الخارجية الصينية في الأمم المتحدة وأفريقيا وأميركا اللاتينية. جاءت هذه الأوراق إضافة إلى رؤى صارت واضحة لمستقبل علاقات الصين بالولايات المتحدة وبالغرب عموماً. بمعنى آخر، ذهبت الصين إلى أميركا هذه المرة لتقول بأعلى صوت ممكن وعبارات بالغة الوضوح أنها صارت جاهزة لتتعامل بإيجابية مع المسؤوليات التي ستُلقى عليها باعتبارها أحدث الدول العظمى. كتبتُ أيضاً عن هيمنة نظرية «الثنائية الاستراتيجية» على كتابات الباحثين والمعلّقين الأميركيين. كان واضحاً خلال الزيارة، وقبلها، أن القيادة الدولية، في نظر هؤلاء، سوف تستقر قريباً في شكل قطبية ثنائية جديدة، برغم أن روسيا تبذل جهداً خارقاً في الداخل والخارج، والآن في سوريا والشرق الأوسط وشرق أوروبا لتجعل القيادة أقرب إلى التعدّدية القطبية، أو في أحسن الأحوال ثنائية مختلطة بقدر لا بأس به من تعددية تشارك فيها روسيا مع دول أخرى في مجموعة «البريكس» ومع ألمانيا منفردة أو ألمانيا تقود الاتحاد الأوروبي.
في مقالة اليوم أضيف ملاحظات أخرى أستكمل بها مبررات اهتمامي بهذه الزيارة التي دشنت، في رأيي، مكانة الصين في النظام الدولي. فقد لفت نظري على سبيل المثال، ونظر آخرين بطبيعة الحال، هذا الزخم من نشاط رجال الأعمال الصينيين خلال الزيارة وقبلها. أعرف، ويعرف كثيرون أن رجال المال والأعمال يلعبون منذ سنوات دوراً رئيساً في اقتصادات وسياسات دول عديدة، بل وفي النظام الدولي وعديد النظم الإقليمية. يعرفه من راقب عن قرب تطورات الأزمة المالية والاقتصادية التي ضربت معاقل مهمة في الاقتصاد العالمي، ويعرفه من راقب تفاصيل الأزمة اليونانية وشبكة تعقيدات الحلول والبدائل التي تصدّت للحل وضغطت على السيدة ميركل. يعرفه أيضاً كل مَن حاول فهم المعضلة الأهم في علاقات النظام الحاكم بالمجتمع العميق في مصر.
لم يكن مفاجئاً لي الطلب الصيني أن تسبق زيارة الرئيس لواشنطن العاصمة زيارة أطول إلى واشنطن الولاية. هناك في هذه الولاية النائية يوجد إحدى أهم قلاع قطاع الأعمال في أميركا. ذهب الرئيس شي الى سياتل ليجتمع مع رؤساء أهم الشركات في العالم مثل ميكروسوفت وآبل والشركة المنتجة لطائرات بوينج، وهذه جاري التفاوض معها على نقل الجانب الأكبر من إنتاجها إلى الصين. المهم في هذه الزيارة الجانبية أو لعلها الزيارة الرئيسية أن مخططيها والمستفيدين منها كانوا من جماعة رجال الأعمال الصينيين. لم يعُد خافياً، وبخاصة خلال الزيارة وبعدها، أن دور رجال الأعمال الصينيين في التأثير على السياسة الخارجية الصينية تجاوز الخط الأحمر في نظام عمل الحزب الشيوعي الصيني وقواعد الحكم في بكين. السؤال الذي يستحقّ من الباحثين الصينيين خاصة الاهتمام بالإجابة عنه ويستحقّ منا انتظار هذه الإجابة، هو المدى الذي وصل إليه نفوذ هذه الجماعة في عملية صنع السياسة الخارجية للصين، خاصة أن بعضنا يعرف أن هذه الجماعة لم تحصل بعد على حقها في التمثيل اللائق في المكتب السياسي أو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. الأمر المؤكَّد بالنسبة للساعين لفهم حقيقي لتطوّر النظام الصيني، هو الحاجة إلى التدقيق في الأساليب التي تستخدمها هذه الجماعة، من خارج أجهزة الحزب، في تنفيذ أهدافها ومصالحها. جديرٌ بنا أن نسعى لفهم طبيعة العلاقات التي تربط بين الشركات العملاقة الصينية وقريناتها في أميركا. لا يكفي أن نكتشف بين الحين والآخر أن كل الشركات الصينية تتجسّس على الشركات الأميركية والعكس صحيح. أعتقد أن شبكة علاقات التعاون والتأثير المتبادل على السياسيين أقوى بكثير من كل ما يُقال عن عمليات قرصنة سيبرناطيقية.
لاحظنا كذلك خلال الزيارة الرسمية والمفاوضات الديبلوماسية غياباً لافتاً لموضوعين أساسيين، أحدهما داخلي وعلاقته بالسياسة الخارجية تبقى غير مباشرة، والآخر خارجي وله علاقة مباشرة بمستقبل السياسة الخارجية. دفعتنا المشروعات والخطط الاستثمارية والتجارية التي نفذتها الصين في الخارج أو أعلنت عن قرب تنفيذها إلى التفكير في حدود قدرة الصين على توفير العدد الكافي من المواطنين في سنّ العمل لتنفيذ هذه المشروعات الخارجية كثيفة العمالة. مرّة أخرى نكتشف ما لم يكن ممكناً قبل أربعين أو خمسين عاماً تصوّر حدوثه في المستقبل، وهو أن الصين يمكن أن «تشيخ» بسرعة، بمعنى أنها صارت تفتقر إلى العدد الكافي من الشبان في سن العمل والإنتاج. تزداد أهمية هذا الاكتشاف من نواحٍ دفاعية واستراتيجية عند مقارنة الصين بالهند، أمّة تسير بخطى سريعة نحو الشيخوخة وأمة تزداد شباباً، بكل ما تحمله المقارنة من معانٍ واحتمالات وانعكاسات اجتماعية وسياسية.
أما الموضوع الخارجي، فهو موقع الشرق الأوسط في سلم اهتمامات «الامبراطورية الناشئة». نبالغ إذا قلنا إن الشرق الأوسط يكاد لا يظهر على أيّ من خرائط الدفاع والأمن في الصين. اسمع من محللين ومراقبين أجانب أن الصينيين عجزوا عن فهم ما يحدُث في الشرق الأوسط. قيل لي إنهم لم يتوصلوا بعد إلى صيغة تعامل ديبلوماسي وأمني بل وتنموي واستثماري مع المسؤولين في دول الشرق الأوسط. هناك من دون شك جهل متبادَل للثقافتين الحاكمتين ببعضهما البعض، فضلاً عن وجود سمعة غير طيبة في الصين عن الطبيعة الخاصة للشخصية السياسية شرق الأوسطية عموماً والعربية بوجه خاص. الأمر كما هو واضح لدى بعض المتابعين لتطور ذهنية السياسات الخارجية العربية لا يخرج بعيداً عن الالتزام بقاعدة التمسك بما هو قائم والنأي بالنفس عن علاقة بقوة دولية جديدة بثقافة مختلفة ونيات قوية عن المستقبل. الصين، بحسب هذه القاعدة، ليست جزءاً في الواقع القائم من الذهنية التي تصنع السياسات الخارجية العربية، فهي مشروع مستقبلي يُستحسَن عدم الانشغال به. وجدير بنا ألا ننسى أن الذهنية السياسية الحاكمة في معظم أقطار الوطن العربي تتمسّك بالحاضر حاضراً ومستقبلاً، ولا ترتاح إلى البدائل المستقبلية. لا ننسى أيضاً أن الصين تقدم نفسها للعرب كما لغيرهم كمشروع مستقبلي.
الصين معذورة إن هي وجدت صعوبة في فهم الشرق الأوسط، معذور أيضاً كل ديبلوماسي أو مفكر عربي يحاول مساعدة الصين على فهم الحال الراهنة في الشرق الأوسط.