دعاية «الجنّة» الألمانية المفقودة تحصّن سيل اللاجئين ضد السدود

دعاية «الجنّة» الألمانية المفقودة تحصّن سيل اللاجئين ضد السدود

جاذبيتها كبيرة. تتميز بالنوعية الممتازة، المتانة، الأداء العملي، وحسن المظهر. هكذا، ليس مفاجئاً أن تحوز اهتمام حشود المستهلكين وثقتهم. ليس على الالمان إلا لوم أنفسهم، يقول معارضوهم. كل ما هنالك أن مُنتَجهم النوعي، هذه المرة، من نوعية فريدة: جنة اللاجئين المفقودة صنعت في ألمانيا. تدافع برلين عمن يتهمها بالجاذبية، وبالإغراء الذي صنعته حول صورتها كوجهة «نجاة» مشرّفة لجموع اليائسين. تقول مستشارتها أنجيلا ميركل إن الاعتذار عن «إظهار وجه ودود»، أمام أزمة إنسانية، أمر سيجعل ألمانيا ليست ألمانيا.


برلين تحتاج هذه الدعاية. لحق بصورتها ضرر كبير، بعد فرضها تقشفاً صارماً على اليونان، كان بمثابة حكم إعدام لحكومتها اليسارية التي سمته «انقلاباً». عادت أشباح الماضي للظهور. أشباح مطامح القيادة والهيمنة، تلك التي جعلت ألمانيا النازية تدمّر أوروبا في الحرب العالمية الثانية. وألمانيا تريد أوروبا، تحتاجها كأفق استراتيجي لا بديل منه. في سياق الضرر انتشرت صور المستشارة ميركل حينما أبكت فتاة لاجئة، صدتّها بلا أي مداراة.
بعد كل ذلك، حلّت صورة مغايرة: «ماما ميركل». كان لا بد من حملة «إعلانية» متعقّلة. سياسة ترحيب باللاجئين، لكن مع استثمارهم في اقتصاد نهم للإنتاج، يحتاج مئات الآلاف من القوة البشرية المتجددة. التشجيع تولّته أيضا إعلانات «الجنة المفقودة»، على مدار اللحظة، ومنها ما صنعه ذكاء السليقة الشعبية.
مرّ عام منذ نشر أحد الشبان السوريين تسجيلاً مميزاً. كان على شكل حوار بالشعر «البدوي»، بين لاجئين تفصل بين وضعيهما مسافات فرق معيشة شاسعة. الأخوان «عويد وعواد»: الأول لاجئ في «صحراء الزعتري»، على حد الوصف اللامع لمبتكر الحوار، والثاني لاجئ في مدينة هانوفر الالمانية. قسوة «الزعتري» جعلت الأول يحن لهناءة طقس القهوة المرة، فأرسل حنينه إلى أخيه شعراً. لكن الشقيق كان مفصولاً تماماً مع تلك «النوستالجيا»، مع عيشة هانوفر الرغدة كما يصفها: «الجيب دفيان، والرواتب بليّا مشاغيل». قصد أنها تأتي بدون الحاجة للعمل.
الآن كتب للتسجيل حياة ثانية، مع فوز ألمانيا بكأس عالم القلوب اللاجئة، فعاد السوريون لتداوله. يتفحصه شاب سوري جاء يزور شقيقه اللاجئ الآن في ألمانيا. يضحك مع أصحابه من كل قلبهم. هذه الدعاية الكاريكاتورية تأثيرها ليس هيّناً إطلاقاً. جاذبيتها كبيرة، خصوصا أن الواقع يخالطها. يحكي الشقيق الذي يستمع للتسجيل أن الكلام عن «الأجاويد من كل ملّة» أمر يعيشه فعلا، في القرية الالمانية التي لجأ إليها على مقربة من الحدود الهولندية.
القرية صارت فيها نسبة اللاجئين السوريين معتبرة. السكان هناك متآلفون، ويظهرون تعاطفاً ترك أثراً كبيراً على من عاشوا العقم من كل رحمة. الجيران اجتمعوا ليدبّروا أثاثاً مناسباً للبيت الذي سلمته الحكومة للعائلة اللاجئة. بعضهم تبرّع بإعطاء دروس خاصة لطفلين بدآ يزقزقان الآن بالالمانية. رب العائلة الشاب على وشك إيجاد عمل في مصلحته الأصلية، شغيل بناء ماهر بتركيب الديكورات الداخلية. موظفو «السوبر ماركت» يردون بودّ على زبائنهم الجدد «شكراً، عرفنا أنكم سوريون».
مظاهر هذه الحياة، على ألوانها، تنتشر إعلاناتها الترويجية انتشاراً هستيرياً. سهولة التوصيل عبر وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الوقع مضاعفاً. الصور والكلام المعسول يفيضان، وفوق ذلك مشاهد الاستقبال المرحّب في محطة قطارات ميونخ. هكذا صار سيل اللجوء، سالكاً طريق البلقان عبر البوابة التركية، أقوى وأقوى.
حملة قمع تقودها حكومة المجر، بشناعة لافتة، لم توقف السيل. الاعتقال يطال العشرات لليوم الثاني. يستمر التلويح بالسجن لثلاث سنوات، حين العبور «غير الشرعي». الحلم بمحطة النهاية المعشوقة يبدد هدير المروحيات ونباح كلاب حراس الحدود. جاذبية الوجهة جعلت كل العراقيل هيّنة. المهم الوصول، فحتى حينما كانت «قوارب الموت»، عبر البحر المتوسط، الطريقة شبه الوحيدة، كان عشرات الآلاف لا يمانعون.
هكذا فهمت مفوضية اللاجئين «منطق الأشياء»، ولم تعد لبث تحذيرها اللافت. كانت أواخر العام الماضي تعرض لخطر «قواب الموت»، محذرة من أن نسبة فقدان الحياة ارتفعت من 1.06 بالمئة إلى 2.4 بالمئة. ربما تنبّهت إلى أن حشود المحاصرين بجهات اليأس سيرون الرقم حافزاً. أمام جسد حياتهم المريضة، بلا أفق، سيرون نجاح عملية «اللجوء الألماني» تستحق نسبة مخاطرة كتلك. كيف بعدما صار الطريق البري بديلا؟!
حصل المتوقع مجددا. انتفاضة اللاجئين اشتعلت، والمواجهات مع قوات الأمن المجرية على أشدها. سيل اللجوء بدأ يغيّر طريقه أمام السد المجري. صار العبور من صربيا إلى كرواتيا، العضو في الاتحاد الأوروبي، بديلاً مؤاتياً في غمضة عين. بدأت حملة القمع والصد المجرية صباح الثلاثاء، فصارت الحافلات التي تنقل اللاجئين من الحدود المقدونية ـ الصربية تضع لوحة الوجهة الجديدة: مدينة شيد الصربية (شمال غرب) بمحاذاة كرواتيا.
السلطات الكرواتية أبقت حدودها مفتوحة، لتعلن وصول طلائع حشود اللاجئين. من كرواتيا سيأخذ اللاجئون طريقهم إلى النمسا، ومن هناك يكملون المسير إلى «الحلم الألماني».
ميركل باتت تحت ضغوط خروج «الحملة الإعلانية» عن حدود الموازنة السياسية والمالية. تمويل الاستضافة سيحتاج صرف مليارات اليورو من الموازمة الفدرالية للأقاليم المتذمّرة. وعدت برلين ببناء مراكز جديدة لإسكان عشرات الآلاف، بعدما فاضت جموع اللاجئين عن قدرة استيعاب مراكز الإيواء.
وجدت ميركل نفسها في موقع المتهم. هناك انتقادات داخلية، وأخرى شرسة من الدول الأوروبية الرافضة لتقاسم الأعباء عبر «حصص إلزامية». دعاية جبهة الرفض على أشدّها، من المجر إلى بولندا وسلوفاكيا والتشيك. وزير داخلية الأخيرة، ميلان شوفانيتس، رفع سقف الانتقاد قائلا إن «المشكلة الكبرى أمام حل (أزمة) الهجرة بحد ذاتها هي السياسات المتعارضة من ألمانيا».
حجة الخصوم أن برلين فتحت ذراعيها، ثم فرضت إجراءات الرقابة على حدودها. رفضت ميركل الانتقادات: «إذا كنا سنبدأ بالاعتذار عن إظهارنا وجهاً ودوداً في حالات طوارئ، فحينها هذه ليست بلدي». كانت تقف إلى جوار نظيرها النمساوي خلال اجتماع عاجل في برلين لنقاش الأزمة. النمسا تشارك جارتها الموقف ذاتها، ولحقت بها فوراً لفرض الرقابة الحدودية. هي خطوة للضغط على الدول الرافضة لـ«الحصص الإلزامية». مستشارها فيرنر فايمان شدد على هذه النقطة، منتقدا من قال إنهم «يضعون رؤوسهم في الرمال»، متأملين أن الأزمة ستمرّ ولن تطالهم بما أن «ألمانيا والنمسا والسويد اتخذوا موقفاً إنسانياً مختلفاً». الاسبوع المقبل على موعد مع اجتماع طارئ جديد، سيعقده وزراء الداخلية الأوروبيون لمحاولة تجاوز خلافاتهم.
البعض يدرك تماما حجم كل هذا العبث الأوروبي. ابتسم رئيس وزراء كرواتيا زوران ميلانوفيتش بسخرية مما تفعله المجر. قال إن «لا أحد يمكنه فعل ذلك»، لا شيء ولا أحد سيمكنه إيقاف هذا السيل. لكن غمزه هذا صوّب أيضاً، ضمنياً، على «كرم الضيافة» الألماني: «ربما أبدو ساخراً، لكن ألمانيا ستستفيد من هؤلاء الناس، إنهم مليئون بالطاقة والمعرفة، يريدون أن يعملوا ولا يريدون العيش على الإعانات الاجتماعية».
لا يمكن القول إن الزعيم الكرواتي مخطئ في الاستنتاجين. ألمانيا هي ثالث أكبر قوة صناعية مصدرة في العالم، وقاطرة للاتحاد الأوروبي الذي يشكل أكبر اقتصاد عالمي. إنها مسؤولية أيضا تجاه منطقة اليورو التي لا تزال تعاني تبعات الأزمة المالية مع نسبة نموّ هشة.
لكن قبل الأزمة وبعدها ستبقى ألمانيا تعيش معضلة تناقص اليد العاملة، مع مجتمع يعاني شيخوخة متواصلة. يشير إلى ذلك الباحث الالماني ميكائيل فيلغموت، من مركز الأبحاث «أوبن يوروب» (أوروبا المنفتحة). ينقل تقديرات الخبراء بأن ألمانيا تحتاج إلى حوالي 400 ألف مهاجر سنويا، من ذوي الكفاءات، كي يسدوا الفجوة الناتجة من الهبوط السكاني.
هذه الشيخوخة تكلف الكثير، خصوصا لمن يعملون. 21 في المئة من مواطني ألمانيا (81 مليون نسمة) هم الآن فوق 65 عاما، وهذا يعني أن على كل عامل أن يعيل ثلاثة مسنين. نسبة الإعالة قدّرت العام الماضي بـ31 في المئة، وبدون علاجات ديموغرافية فعالة يتوقع ان تصل الإعالة إلى 57 في المئة عام 2045.
ازدياد تدفق سيل اللجوء السوري، مع روافده من بلدان البؤس الأخرى، يجعل الأعداد تفيض عن حاجة الاقتصاد. أيضا عن قدرة الاستيعاب والإدراج في برامج التأهيل والإدماج. لكن ذلك ليس كل شيء. الزعيم الكرواتي مصيب أيضا في حديثه عن لاجئين لا يريدون العيش على الإعانة، أو على «الرواتب بليّاً مشاغيل» كما قال الحوار البدوي. بالمقاييس الأوروبية، لا يمكن مواصلة العيش على إعانة تكفي فقط لتغطية تكاليف الحياة اليومية.
لكن هل سيعمل ذلك كدعاية مضادة لـ «الجنة الألمانية»، خصوصا من جعلته ظروف الحرب يعيش في قاع الإهانة والحاجة. ألن يكون ذلك مثل «نسبة الموت» التي اختفت من تحذيرات مفوضية اللاجئين. هل يردع القول إن سوق العمل الالماني متهم بمحاولة «استعباد» العمال. أن برلين تضع مصلحة الشركات فوق كل اعتبار، وأنها عاندت طويلا قبل إقرار حد أدنى للرواتب. المثبّطات لا تعمل: يتناقل سوريون أن هناك من يسعى لبيع بيته، في الوطن الممزق بالحرب، ليلتحق بسيل الباحثين عن نجاة مشرّفة.
ليس أكيدا أن «منفّرات» كهذه ستعمل كدعاية مضادة. في التسجيل المذكور، يردّ البدوي اللاجئ في هانوفر بصرامة كاريكاتورية على حنين شقيقه في «صحراء الزعتري» لطقس «دلّة القهوة». متجاوزاً اللباقات، بعد وصفه لمباهج حياته الجديدة، يقول لأخيه من الآخر: فلتعذرني «أنت والوطن... والدلّة».