حوار بعد منتصف الليل

حوار بعد منتصف الليل

تطعمهم وتحممهم وتغسل ملابسهم وتراجع دروسهم وتحكى لهم الحكايات كشهرزاد حتى يغلبهم النوم ، تقبلهم وتحكم الغطاء حولهم بقوة الأمومة الحنونة،ثم تغلق الباب عليهم بهدوء شديد، تتمنى أن يظل مغلقا أربعة أشهر حتى نهاية نوفمبر، الموعد المحدد لتسليم كتابها لدار النشر، تمشى حافية على أطراف أصابعها للغرفة الأخرى، زوجها غائب فى النوم، شخيره المنتظم يخرج عميقا من فمه وأنفه ، تحكم الغطاء حوله بقوة الإخلاص الزوجى وتغلق الباب عليه، تتمنى أن يظل مغلقا أربعة أشهر حتى تنتهى من الكتابة.


الكتابة ألم لذيذ كالخطيئة الأولى، تمارسها خلسة بعد أن تنتهى من واجباتها الشرعية، وسجن الأمومة المؤبد، وقفص الزوجية الذهبى، والماضى بآثامه وجروحه المزمنة، والمستقبل بأسراره وكوارثه المفاجئة. درجة الحرارة أربعون فى شهر يوليو، جسدها ملتصق بقميصها المبلل بالعرق، مدينة القاهرة غائبة عن الوعى تحت ضباب كثيف، الأعلام مرفوعة بالنصر ومنكسة بالهزيمة، معدتها تكاد تكون خاوية، تدخر طعامها لأطفالها وزوجها، قلبها ينبض بالفرح الحزين، عقلها لا يتوقف عن العمل، أصابعها تدق الحروف بدقة، وفجأة تسمعه يزعق.

أنت مجنونة، أتكتبين فى منتصف الليل؟ أكتب حين أشاء يا سيدى، لا يا سيدتى أنت لست حرة، لا يوجد إنسان حر، الإنسان مسير، أفعاله مكتوبة على جبينه ومسجلة باللوح المحفوظ قبل أن يولد الإنسان، يتصرف بإرادته الحرة، مسئول عن أفعاله، لا مسئولية دون حرية يا سيدى، لا يا سيدتى كلامك غلط ! يا سيدى إذا كان الإنسان مسيرا، فكيف يحاسبه الله على أفعاله ويحرقه فى النار؟

أنت يا سيدتى لست من علماء الدين يعجز عقلك الناقص كأمك حواء الآثمة عن إدراك عدالة الله، الإنسان مسير ومخير فى وقت واحد، ملاك وشيطان، صادق وكاذب، أراد الله هذا التناقض للإنسان، يضحك بصوت عال كالقهقهة، يا سيدتى أنا ملاك وشيطان، مخلص وخائن فى وقت واحد ،ليس هذا تناقض الله بل حكمة عظيمة تعجزين عن فهمها، منذ الطفولة كانا يلعبان فى حوش المدرسة، يتسابقان فى كل شيء: الرياضة والكتابة والكيمياء والحساب والجبر، كانت تسبقه دائما حتى فى الجرى، لكن قبل أن تصل لنهاية الشوط يشدها من الخلف، يكعبلها بقدمه لتتعثر فتسقط ويأخذ هو الجائزة.

تتثاءب بصوت عال علامة الملل فيقول بسرور: أتشعرين بالهزيمة؟ لا يا سيدى أنا لا أشعر بالهزيمة، أنت مسرورة من نفسك؟

بالعكس أنا مكتئبة جدا، المكتئبون لا يكتبون يا سيدتى، الكتابة لا تكون بغير الخداع، خداع النفس قبل خداع الآخرين، أتفقهين ذلك؟

كان يرأس تحرير المجلة الأدبية الصغيرة قبل تعيينه فى المنصب الكبير، قصيدة واحدة كتبتها فى بداية حياتها، وأرسلتها لإدارة التحرير، وقعت فى يده وهو يفرز البريد، قرأها بإعجاب شديد وكراهية أشد، أتتفوق عليه فى الأدب والفضيلة كما تفوقت عليه فى الإثم والخطيئة؟

كانت المجلة تصدر كل أربعاء، أصبحت تنتظر الأربعاء من كل أسبوع، والأربعاء من بعده والذى بعده، حتى يئست ونسيت، كم سنة مرت؟ عشرون ثلاثون؟ ثم اعترف لها بأن قصيدتها كانت مدهشة وكان لا بد أن تنشر، لولا أنه سحبها من البريد ولم يعرضها على مجلس التحرير، وقال مملوءا بالخزى : أتغضبين منى وتحتقريننى؟ ضحكت بسرور كبير: بالعكس بدأت أحترم صدقك لأول مرة فى حياتى، دعاها الى فنجان قهوة أيام الجامعة، اعتذرت لارتباطها بموعد، كان يعرف أنها تكذب وليس عندها موعد، لكنها لا ترغب فى الحديث معه، يقول عن المرأة أنثى، كلمة أنثى ترن نابية بصوته، لا تشعر ببهجة الكلمات معه، يراها جالسة فى الكافيتيريا مع الآخرين منهمكة فى الحديث، تضحك وتهز رأسها وعيناها تلمعان بالسرور، لم يكن السرور يعنى الحب، لم تكن تقع فى الحب مثل البنات ، كانت تحب الكلمات والأدب وتكره الظلم ونظام الحكم، تتمنى سقوطه منذ طفولتها الأولى، بعد الثورة الكبيرة سقط رأس النظام وبقى جسده، وإذا كان الرأس هو رئيس الدولة فإن الجسد هو الدولة أليس كذلك؟ لكنه أصبح يفصل الجسد عن الرأس ويزعق فى الليل: أتريدين سقوط الدولة؟ وتقول بهدوء: كنت تكتب عن الثوار كأبطال كيف تحولوا فى نظرك الى بلطجية؟ ويزعق: يريدون هدم الدولة ألا تفهمين يا امرأة؟ وهل الدولة خارج النظام يا رجل؟

وارتفع صوته أكثر: الدولة ليست خارج النظام وليست داخله يا حمارة، وارتفع صوتها مثله: هل الدولة فى كوكب آخر يا حمار؟ هنا توقف لحظة، كيف تخاطبه بمثل ما يخاطبها؟ منذ طفولته لم يتخيل امرأة مساوية للرجل، سمعه الجيران النائمون يصرخ كالمجنون، ومن وراء الجدران صفعها على وجهها صفعة، رفعت ذراعها عاليا لتدوى الصفعتان على وجهه، انعقد لسانه بالدهشة، لم يتخيل فى حياته أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين، ومنذ ذلك الحوار فى منتصف الليل لم يسمع أحد من الجيران صوته.