حبر وملح (أضعفُ الإيمان)

حبر وملح (أضعفُ الإيمان)

ليس الاقتباس عيباً ولا آفة، على العكس هو علامة صحية وشكل من أشكل التفاعل بين الثقافات المختلفة، ونوع من التلاقح الأدبي والفني، فما أجمل النص الإبداعي الذي يحرّض ويحفّز على كتابة ما يوازيه أو يضاهيه إبداعاً، فالتناص مُوّلدٌ لإفكارٍ يتناسل بعضها من البعض الآخر. فأسلافنا على مر العصور والأزمنة كتبوا كل شيء تقريباً، لم يتركوا موضوعاً الا طرقوه ولا باباً الا ولجوه. وما خلفوه من ابداعات عالية يجعل التحدي أمامنا أصعب، والإضافة شبه مستحيلة. هم كتبوا الولادة والموت وكل ما بينهما، فلم يبقَ أمامنا سوى إعادة قول ما قالوه ولكن بطريقتنا وبأساليب تشبه أو تعبّر عن أنماط عيشنا وما يطرأ عليها من تحولات ومستجدات ومتغيرات. على سبيل المثال: ساعي البريد الذي كانت تُنسَج حوله الحكايات الرومانسية، والمكتوب (الرسالة) الذي كان العشّاق ينتظرونه بفارغ الصبر، وكُتِبَت من وحيه أغنيات وقُدِّمت عنه أفلام (مَن ينسى الفيلم الرائع أل بوستينو)، تقريباً لم يعد موجوداً، حلّ محله البريد الالكتروني والواتس آب والسناب شات ووسائل التواصل الاجتماعي المتنوعة، وجُلُّها أمور مستجدة في العقد الأخير، ولا بد أن أثرها عميق وكبير على مختلف مناحي الحياة، وتالياً على الآداب والفنون المُعبِّرة بشكل أو آخر عن هذه الحياة.


نعود الى الاقتباس الذي يظل أمراً محموداً ومطلوباً لأن تلاقح الثقافات أمر لا بد منه، فلولا الترجمات مثلاً لما تعرفنا على كثير من علوم الأولين وفلسفاتهم وفنونهم وآدابهم، لكن ما يثير فينا التساؤلات أحياناً هو المبالغة في أمرٍ ما من دون مبرر أو مسوّغ، وهذا ما لاحظناها في بعض الأعمال الدرامية الرمضانية هذا العام والذي سبقه، اذ لم نجد ضرورة لاقتباس بعض الأفلام وتحويلها الى مسلسلات مملة من ثلاثين حلقة متتالية، خصوصاً أن الاقتباس في مثل هذه الحالة يفرض مطّاً وتطويلاً غايته الوحيدة ملء الفراغ، إذ من غير المنطقي ولا الطبيعي أن تتمدد أحداث فيلم مدته ساعة ونصف الساعة على مدى ثلاثين ساعة. نعرف أننا لسنا الوحيدين الذين نعمد الى مثل هذا، لكنّ للاقتباس الناجح شروطاً أولها أن يكون ذكياً وحرفياً، ويبتكر أحداثاً مترابطة مشوقة منسجمة مع الخط الرئيسي للعمل، عِوَضَ التكرار والتطويل المجاني المُنَّفِر للمشاهد المُتاح له خيارات لا عد لها ولا حصر، وفي إمكانه بكبسة زر الانتقال الى مشاهدة شيء آخر.

ما نستغربه أيضاً تنافس شركتي انتاج على اقتباس الفيلم نفسه، والمقصود فيلم «العراب» الذي شوهد مراراً وتكراراً في الصالات السينمائية وعلى شاشات التلفزة، والسؤال المحير الذي يُطرح على المنتجين: هل خلت الساح من نصوص وروايات عربية جديرة بتحويلها أعمالاً درامية؟ بل لعل الصيغة الأنسب للسؤال هي: أصلاً، هل يقرأ المنتجون (ولا نعمم اذ دوماً ثمة استثناءات) تلك الروايات؟ وبينها أعمال ذائعة الصيت وحائزة جوائز أدبية رفيعة؟ ألا يعرفون أن أوج الدراما والسينما في مصر قام على روايات نجيب محفوظ ويوسف ادريس وإحسان عبد القدوس وبهاء طاهر وسواهم من كبار الكّتاب؟

نكرر، لسنا ضد الاقتباس بالمطلق، لكننا نحثُّ المنتجين على عدم الاتكال أو الاتكاء فقط على الاقتباس تارةً أو الدبلجة طوراً، بل الالتفات الى ابداعات الروائيين العرب وهي كثيرة وساحرة وفيها الكثير مما يصلح ويستحق أن نشاهده على الشاشة. فهل مِن منتجٍ صاحب هَمٍّ، ذوّاقة، متنور، مثقف، أو قارئ على الأقل... وهذا أضعف الإيمان؟