اليونان طريدة الفردوس

اليونان طريدة الفردوس

ــــ ١ ــــ
بنوع من الواقعية، منحط، لن يرى «لا» اليونانية سوى مقدمة لحن جنائزي.
الواقعية المنحطة تتعامل مع السياسة على أنها لعبة سيادة الأقدار، الصغار يلعبون فيها مع الآلهة لعبة معروفة النتائج، فالرأسمالية لا تفشل، أو أنها النقاء البشري الذي لا يلوّث بأفكار عن تغييرها أو تكسيرها.


ومن وجهة نظر هذه الواقعية، فإن ما فعلته اليونان انتحار، وخروج من فردوس اليورو، أو على الأقل لهو بمصير الشعوب.
الحكومة اليسارية شاركت الشعب كله في «المغامرة/ المقامرة»، لكنها في الوقت نفسه تصرفت بمسؤولية حين لم تحوّل موقفها إلى مجرد «شعار» في مواجهة «واقع تحت السيطرة تماماً من المؤسسات المالية العابرة»... لكنها أرادت التفاوض مع «آلهة اليورو» من موقع مختلف، له طابع ديموقراطي (إشراك الشعب في قرارات مصيرية)، وحشد المجتمع للدفاع عن وجوده برفض «الإذلال»، لا نشر رسائل ترويج بأنه «ليس في الإمكان أبدع ممّا هو كائن» أو «كيف سنواجه الوحش بقلوبنا الضعيفة.. وإمكاناتنا المحدودة».
الجديد هنا لم يكن «شعاراً» لا يراعي تعقد الواقع، لكنه مسؤولية لم تحتقر الناس أو تعاملهم بنوع من التعالي على أنهم «عالة»... على السلطة أو الحكومة، وعليهم الامتثال لتسليم الحكومات بهذه «الأقدار» السياسية.
«لا» اليونانية إشارة إلى دور حكومة لا تقود الناس بغوغائية أو شعبوية كعادة الزعماء الذين عرفناهم في منطقتنا.... زعماء يلغون الشعب وهم يتحدثون باسمه.
ــــ 2 ــــ
ابتلاع اليونان...
كانت خطة «رأسمالية متوحشة» رفضها اقتصاديون ما زالوا يؤمنون برأسمالية كلاسيكية، عبرت عنها تصريحات مسؤولة صندوق النقد الدولي حين انتقدت ما فعلته سياسات التقشف في اليونان (وبالطبع في غيرها..).
المتوحشون أوصلوا اليونان إلى الحافة، لتكن «منتجعهم» الخلفي، يشترونها بدلاً من دفعها إلى المساهمة في دوران «الماكينة الكبيرة» للرأسمالية... وليست القضية في الـ300 مليار يورو من الديون، وإنما في «أثر» هذه الديون على كسر الإرادة وتغيير السياسات وتطبيق قانون «البقاء للأكثر قدرة على الابتلاع..».. وهو قانون يفرض نوعاً من «ديموقراطية» مهمتها تكريس «حكم الأقدار المالية..».
اليونان رفضت «ديموقراطية» تكبيلها باتفاقات جديدة، وحرّكت إرادتها «ديموقراطية» أخرى تمنح الشعوب فرصة للهروب من «أقدار» الرأسمالية المتوحشة.
ومرة أخرى الحكومة اليونانية بنماذج قيادتها اليسارية العصرية /الذكية/ والمسؤولة.. لم تفعل هذا بخطابات غوغائية/ أو مغلقة/ أو تمثل ميتافيزيقا الديكتاتور الملهم، ولكن بذكاء وديموقراطية لا تعبئ الشعوب في الصناديق... لكنها تبني مجالات اجتماعية تدافع عن إرادتها وتتحمّل اختياراتها.
ــــ 3 ــــ
الواقعية المنحطة لن تفهم معنى المغامرة كما قدمها أهل أثينا...
مغامرة جماعية تقودها قيادات سياسية ولدت في»الشارع»، لكنها لم تمسك بالطبول بدلاً من برامج «الخروج من الأزمة..»... ورأت بجنونها أن حل الأزمة بخطة نمو لليونان، لتستطيع تسديد الديون، لا بسياسة تقشف توقف النمو وتجعلها أسيرة ديونها للأبد.
اليونان اختارت «المنطق» الذي يلتقي فيه «الرأسمالي الكلاسيكي» و»اليساري المجنون»... لا منطق فرض «القوة» التي تسلب الإرادة وتصنع المتاهات لشعوب يراد لها تسديد الديون بديون جديدة...
هذا الوعي جديد على إدارة «اليسار» معاركه، ومولود في زخم احتجاجات اجتماعية على سياسات «الامتثال»، لا في تقديم «الخلاص للعالم»، وعندما يقول وزير المالية اليوناني فاروكاس إنه يريد الحفاظ على مصالح «دافع الضرائب...» بالضبط كما يريد «اليميني» في حكومات ألمانيا وبقية أوروبا، فإنه يرى السياسة من منظور مصلحة «المواطن» لا من منظور حروب الخلاص الكبرى وهي نقلة في اليسار يمثلها فاروكاس الذي استقال كي لا يقف عقبة أمام العودة إلى التفاوض (خوفاً من أن يكون وجوده الشخصي مستفزاً للمفاوضين الأوروبيين).
هنا «لا» اليونانية ليست عابرة، إنها تؤسس ليسار معاصر، ودولة تعمل لمصلحة ساكنيها ولا تخوض بهم حروبها الهويَّاتية، وتتعامل مع السيادة بمنطق هتلري، بينما تتهاون في الإرادة الاقتصادية بمنطق وكلاء الرأسمالية المتوحشة.
في أثينا سقط أحد أنياب الرسمالية المتوحشة.