المقاربة القومية في فهم معوقات النمو القطرية سجال مع خمس خبرات عربية دولية

المقاربة القومية في فهم معوقات النمو القطرية سجال مع خمس خبرات عربية دولية

نلاحظ في نصوص لخبراء اقتصاديين عرب ميلهم لاعتماد مقاربة قومية في تشخيص تشويهات النمو المتشابهة بين البلدان العربية وفي تحديد إمكانات التنمية واولوياتها، وذلك مع اختلاف التأشير عليها والربط بينها. وهي مقاربة تستند بمجملها إلى ما يُسمى بالمنهج الفينومينولوجي القائم على العرض الوصفي للظواهر البارزة في الحقول المجتمعية المدروسة ولا يقوم على تنميط ـ تجريدي (Ideal ـ type) للظواهر بعد التدقيق في تصنيف اختلافاتها، كما هو الحال في المقاربة المُفسّرة او المُفهّمة كما يقول ماكس فايبر. ويميل الكثير من الخبراء الدوليين في نهجهم الوصفي لظواهر تعوّق التنمية الى تجاوز وحدة الحقل المجتمعي القطري لهذه الظواهر باتجاه ما يفترضونه وحدة الحقل القومي القائمة على تشابهاتها بين الأقطار، علماً أن نطاق أي كيان سياسي لكل قطر يجب أن يُعتبر حقلاً مجتمعياً مختلفاً، أولا وقبل كل شيء بفعل اختلاف مزايا وميول الأطراف الفاعلة فيه. وذلك لأنه يعود إلى اختلاف العلاقات الموضوعية التي يفرضها ميزان القوى السياسية والاقتصادية والثقافية بين الجماعات والمؤسسات المتأثرة بتوجهات تلك الأطراف والى اختلاف العلاقات الخارجية لهذه القوى.


وبناء على هذا التعريف للحقل المجتمعي للدولة القطرية ولوحدة بنيتها الكيانية المتمأسسة على امتداد حوالي قرن على الأقل، سبقت الاستقلال وأعقبته، داخل حدود النطاق القطري المعترف بها أهلياً ودولياً، تصبح حدود حقل البحث في التنمية هي أولاً حدود الحقل المجتمعي القطري وليست الحدود السياسية ـ الايديولوجية لوحدة الحقل القومي المفترضة لمجرد تشابه الظواهر بين الأقطار. ونحن نرى أن التوحُّد بين هذه الأقطار أو بين بعضها، قد يغدو ضرورة موضوعية عندما تصبح مصالح الأطراف الفاعلة في موازين القوى القطرية الاقتصادية والسياسية مرتبطة بالانتقال إلى حقل التكامل القومي والإقليمي أي إلى موازين قوى أعمق ترابطاً وأقدر على المواجهة والمنافسة على صعيد الأسواق الخارجية. وهذا يعني باختصار أن تكامل الأسواق وتوحّد الأقطار العربية الإقليمية هما عمليتان يمكن أن تتدرّج اليهما التنمية المنفردة لكل واحد المجتمعات العربية ولا يمكن أن تنطلق منهما.
إن تركيز الكثير من الخبراء العرب على مؤشرات الظواهر المتشابهة لتشوّهات النمو في البلدان العربية غير النفطية والفقيرة، هي مؤشرات لا تقتصر على هذه البلدان فقط، يؤدي من دون ريب، بقصد أو من دون قصد، إلى التخفيف من المسؤوليات الخاصة بكل من الحكومات القطرية عن أسباب تعويق أو تشويه النمو المسؤولة عنها، وذلك عن طريق توجيه الاهتمام إلى توجهات قومية تُروّج لتحقيق آمال مشتركة لا تُسأل عن صدقية تنفيذها أي حكومة بمفردها. وهنا نُذكّر بما سبق وشهدته القمم العربية على امتداد أكثر من نصف قرن من المداولات والقرارات لإنشاء مؤسسات قومية تكنوقراطية اتحادية لمواجهة العجوزات المتشابهة التي تعانيها الاقطار منفردة، ولكن هذه المؤسسات ظلت قاصرة في مكاتبها عن معالجة أي من العجوزات العربية المشتركة التي أُنشئت من اجل مواجهتها على اصعدة الأمن العسكري او الامن الغذائي او التكامل الاقتصادي وغيره.
بعد قراءة مقارنة لخمسة نصوص لخبراء اقتصاديين عرب (*) لاحظنا أنه يتكرر فيها اعتماد المقاربة القومية عينها، حيث يُبرزون التشابه في معوقات النمو في الأقطار العربية والتقارب في شروط تجاوزها مُتمثلة في اقتراحات جذّابة لتغييرات جذرية او طموحة على وجه العموم. اقتراحات تُقارب في جذريتها التغييرات التي يقترحها الدكتور عمر الرّزاز في توصياته للتوجه نحو «العناصر السبعة لعقد اجتماعي عربي جديد ونحو دولة الإنتاج». وهي توصيات يستعصي تحقُّقها في ظل التفارقات الكبيرة لأشكال ومستويات نمو المؤسسات السياسية والاجتماعية بين الأقطار. وإذا كانت مقاربة الدكتور دارم البصّام، في نصه المشار إليه أدناه، قد راعت وحدة الحقل المجتمعي القطري إلا أن تصوراته لـ «سياسات التنمية البديلة في بلدان الثورات العربية» لم تكن، في تقديرنا، أقل جذرية واستعصاء عندما ركزت على الملامح المطلوبة «للسياسة الاقتصادية الكلية الصدوقة للفقراء»، حيث افترض إمكان توفر «قوى المساءلة الاجتماعية» والأحزاب السياسية المؤهلة لقيادة عملية جذرية كهذه وتوفر الظروف الإقليمية و/او الدولية المساعدة على «تطبيقات الديموقراطية التشاركية..».
ومن بين نصوص الاقتصاديين الخمسة، المُشار اليها في الهامش أعلاه، اخترنا أن نتوقف أمام نص الدكتور جورج قرم لتقديرنا بأنه الأكثر بلورة لنموذج المقاربة القومية لأشكال تّشوُّه النمو العربي ولمقترحات النمو المنشود التي تبرز معالمها في النصوص الأربعة الأخرى. وقد رأى «النموذج الصالح» في ما تمّ اعتماده في منطقة جنوب وشرق آسيا منذ ما ينوف عن نصف قرن ومكّن بلدانها من كسر حلقة الاقتصاد الريعي الذي ظلت الاقتصادات العربية تنوء تحت ارتداداته. وقد غاب عن نص الدكتور قُرم أن يُميز بين الظروف الجيو - اقتصادية والسياسية المرتبطة بالحرب الباردة التي جاءت مُلائمة سياسياً واقتصادياً لنهوض تلك البلدان الآسيوية الناشئة منذ ما يفوق على نصف قرن من جهة، وبين ظروف دولية معوّقة ارتهنت لها الأنظمة العربية فانقادت الى هدر موارد أقطارها على بيروقراطية استبدادها وجيوشها، فعززت حلقات الاقتصاد الريعي المُهيمن في اقطارها ومنها مصر وتونس قبل انتفاضتيهما وبعدهما.
وإذا كان من الواضح أن الحكومات الجديدة في هذين البلدين قد قصّرت في تطوير «أهداف تنموية بديلة... وسياسات تركز على استراتيجية لتوطين العلم والتكنولوجيا لدى كل الفئات الاجتماعية الريفية المدينية الفقيرة...»، إلاّ أن قُرم لم يُفصِّل في محددات وآليات تجدُّد هذا التقصير عن بلورة أهداف تنموية في أولويات تصل إلى مثل هذا المستوى من تجارب التنمية الناشئة في جنوب وشرق آسيا. فذهب إلى حد افتراض صحة المطابقة بين ظروف تحقق النهوض التنموي الآسيوي منذ ما ينوف على نصف قرن من جهة، وبين إمكانيات تحقق مثل هذا النهوض في دول الانتفاضات العربية من جهة أخرى، طالما أن اقتصادات دول هذين الإقليمين تشابهت منذ أكثر من نصف قرن لجهة غلبة الطبيعة الريعية لاقتصادياتهما.
وأمام اعتماد مثل هذه المطابقة المفترضة، يجد القارﺉ نفسه أمام تشوُّه في نمو المجتمعين المصري والتونسي لا يُفسّر إلاّ بكونهما محكومين بقصور متأصل في ثقافتهما وقيمهما، يحول دون تمكّن النخب في كل منهما من خرق آليات تجدد التبعية الاقتصادية والمالية والتكنولوجية في كل من اقتصاديهما الريعيين القائمين على تصدير المواد الأولية والخدمات والصناعات التحويلية والمساعدات الخارجية، وبقصور عن الانتقال إلى «صوغ سياسات عامة بديلة اقتصادية واجتماعية وتنفيذها على نحو متسارع...». سياسات تحديثية سبق أن أثبتت جدواها في نموذج التنمية في شرق آسيا القائم على الإنتاج الصناعي التحويلي التصديري المنافس في الأسواق العالمية. وهو نموذج لم يتساءل قُرم حول الظروف الدولية التي أشرنا اليها اعلاه ووفرت له الشروط الجيواستراتيجية الملائمة لتحققه في مطلع ستينيات القرن العشرين، وليس قبل عقد من بلوغ نموذج التنمية الياباني مستوى النمو الصناعي الاستقطابي لكوريا الجنوبية وغيرها في شرق آسيا، ولا قبل تبلور النموذج الصيني في اشتراكية السوق وبلوغه المستوى الاستقطابي في هذا الإقليم الآسيوي وبلوغه المستوى العالمي في المنافسة والتصدير الإغراقي الى الأسواق الخارجية.
والى مثل هذه المقارنة المفتعلة ذهب الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى، ولم يتوقف هو ايضاً عند اهمية فارق الظروف الدولية والاقليمية السياسية والاقتصادية التي وفرت للدولة الكورية الجنوبية، بعد خروجها من الاحتلال الياباني المهين، دعماً استراتيجياً عسكرياً واقتصادياً كجبهة أولى في مواجهة المعسكر الشيوعي السوفياتي والصيني وامتداداتهما الآسيوية ممثلة بدولة كوريا الشمالية. وقد سبق للمجتمع الكوري أن تحمل تبعات الاحتلال الياباني بين الحربين العالميتين وفرضه على السلطة الكورية تسهيل نشوء مراكز معنية بتوفير ما سُمّي في ظله بـ»نساء المتعة أو الترفيه» عن جنود الجيش الياباني في محيطات قواعده، وهو «ترفيه» طال مئتي ألف امرأة، شكل الطلب الكوري اعتذار وتعويض الدولة اليابانية عنه وما يزال موضوع نزاع بين الدولتين الآسيويتين.
وفي سياق هذه المواجهة الدولية تمثلت الرعاية الاستراتيجية الأميركية منذ أواخر الخمسينيات بتشجيع الأميركيين للحكم العسكري الحليف على اعتماد نموذج للتنمية منافساً للنموذج السوﭭياتي ومرتبطاً بسوقي القطبين الأميركي والياباني. نموذج يقوم على ما يسمّيه عيسى «منصات إنمائية» تُمكّن الاقتصاد وتتعزّز بالحماية وتوفر العمالة الرخيصة من جذب الاستثمارات من هذين القطبين كما سبق وأشرنا، ومن بلوغ مستويات عالمية من التصنيع والمنافسة.
غير أن عيسى رجح في انطلاق النموذج الآسيوي الكوري «وبصفة أساسية» فعل ما يُسميه «الهياكل المحلية أو العوامل الداخلية ممثلة بصفة خاصة في طبيعة تركيب النخب الثقافية السياسية ونظم الحكم»، وقد عزا تميّز النخب الآسيوية في قدراتها على الخرق التنموي بالمقارنة مع تعوقات النخب العربية عن مثل هذا الخرق خلال الحقبة عينها الى ما تتمتع به النخب الأولى من «ذكاء سياسي»، مكّنها من «الاستفادة من تناقضات النظام الدولي...» وتثمير علاقة تبعيتها مع العرب. وهذا ما يقود إلى الاعتقاد بأنها كانت على عكس النخب الثقافية والسياسية العربية التي اعتبر عيسى أن الحكام يمثلونها في نظام السادات، كما في نظام مبارك، وقد دلوا على «غباء منقطع النظير في الادارة السياسية للموارد الوطنية من دون ارادة ذاتية حقيقية...» وعـلى غياب «للحصافة والحكمة» عندهم.
(]) نص للدكتور جورج قرم في مجلة المستقبل العربي عدد 426/2014 تحت عنوان «الاقتصاد السياسي للانتقال الديموقراطي في الوطن العربي»، ونص للدكتور دارم البصام في مجلة عمران عدد 9/2014 تحت عنوان «سياسات التنمية البديلة في بلدان الثورات العربية» ونص للدكتور عمر الرّزاز في كتاب «النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في الدول العربية ـ الأبعاد الاقتصادية» الصادر العام 2013 بين منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان «من الريع إلى الإنتاج: الطريق الصعبة نحو عقد اجتماعي عربي جديد»، ونص للدكتور بهجت قرني في كتاب «التنمية الإنسانية العربية في القرن الواحد والعشرين ـ أولوية التمكين» القسمان الأول والثاني، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ومنتدى الجامعة الأميركية بالقاهرة. ونص للدكتور محمد عبد الشفيع عيسى بعنوان «حول الاختراق الأجنبي للوطن العربي: مقارنة مع شرق آسيا... ما العمل؟» نشر في جريدة السفير اللبنانية، عددي 25 و26 حزيران 2015.

يلخص الدكتور جورج قرم(]) أبرز تشوهات النمو المتشابهة في البلدان العربية مستنداً في قياس مؤشرات هذه التشوهات إلى دراسات متفاوتة التقديرات صادرة عن البنك الدولي ومكتب العمل الدولي و «الإسكوا» وبنك الاستثمار الأوروبي و «الأونيسكو» وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وقد اعتمد المقاربة التكنوقومية نفسها لهذه المنظمات الدولية التي توحد بين أنواع ومؤشرات ظواهر تشوهات النمو في الأقطار العربية، وبين انواع الفرص الممكنة لتجاوزها، من خلال آليات التآزر والتكامل بين الأسواق الإقليمية والدولية، كما صيغت في الهدف الثامن من أهداف الألفية تحت تسمية «شراكة عالمية من اجل التنمية». واقتصرت فرص تحقق هذا الهدف على ارتفاع نسب التبادلات التجارية بين بلدان «البراكس» الناشئة، في الوقت الذي ظل تحقيق مثل هذه الآليات مستعصياً بين الحكومات المتنافرة المصالح والإدارات المتراكمة الفساد خارج هذه البلدان.
وهنا نعرض لبنود المقاربة القومية حول تشابه مؤشرات التشوّه، كما عُرِضت في نص قُرم المنشور في مجلة «المستقبل العربي» حول ما يسمّيه «نموذج النمو العربي المشوّه» وهي مقاربة لم تخرج في مؤشراتها عن منظومة مؤشرات التشخيص التي تتبنّاها المنظمات الدولية ومنها:
1. مؤشر أن البلدان العربية تشهد «أدنى معدلات من السكان العاملين إلى العدد الإجمالي للسكان»، ويصنفها الكاتب في وضع عمالة متشابه، برغم أن نسبة العاملين في الأردن مثلاً لا تتجاوز العام 2012 ثلاثة أرباع ما هي عليه في تونس. ويذهب في المقارنة إلى تجاوز فروق معدلات العمالة بالنسبة لإجمالي السكان بين مجمل البلدان العربية غير المصنّعة بفعل معوقات كثيرة من جهة، وبين كوريا الجنوبية التي مضى على إقلاعها في التصنيع أكثر من نصف قرن من جهة أخرى. وفي مثل هذه المقارنة، يُوضع القارﺉ، أمام تفسير يُغيّب المُحدّدات الجيو - سياسية لتعوُّق النمو في تاريخ كل من الحكومات القطرية ليصل، بقصد او من دون قصد، الى تفسيرات تنأى عن المسؤوليات السياسية لمستثمري آليات التعويق في كل قطر، وتُوجّه القارئ الى تفسير مُجمل قصورات النمو في الأقطار العربية عن مواكبة قفزات الازدهار الكوري - الآسيوي بمعوقات ثقافية - حضارية مُلازمة للعرب نُخباً وعواماً.
2. مؤشر أعلى معدلات البطالة بين السكان في سن العمل، ويَلفت الباحث الى التفارقات بين تشوُّهات النمو في البلدان العربية، فيُشير الى أكبرها وهو أن «نسبة غير العاملين من ذوي التعليم الثانوي تقدر في مصر بنحو 80 في المئة من مجموع العاطلين، في الوقت الذي تبقى في المغرب بنسبة 29,6 في المئة. ولم ير في مثل هذا التفاوت الكمي بين نسبتي تعطُّل الشباب في مصر والمغرب مؤشراً يبرر التمييز النوعي بين آليات تجاوز التشوهات القطرية التي يقترحها الخبير والوزير السابق، مُبرراً تمييز البلدان العربية الفقيرة عن مثيلاتها في أطراف العالم، في فئة واحدة لا تتباين نوعياً مستويات تشوه نمو مواردها البشرية، وهي التي تتباين مواقعها في الجيواستراتيجيات المفروضة على كل منها.
3. مؤشر ركود الأجور الحقيقية ومؤشرات الفقر في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وهنا أيضاً لم يتوقف قُرم في عرضه عن تشابه التشوّهات العربية أمام ما يعنيه اتساع الفروق وضعف التشابه بين هذه البلدان، وهو الذي يُشير في نصه إلى أن حصة الناتج المحلي الإجمالي مقارنة باستهلاك الفرد يومياً محسوباً بالدولار الأميركي، تراوح بين 2,34 دولار في موريتانيا و 11,05 دولار في الأردن.
4. مؤشر معدلات النمو السنوية التي تعتمد إلى حد كبير على المتغيّرات الخارجية المختلفة باختلاف أهمية القطاعات الاقتصادية، بين «نفط وزراعة وسياحة وتحويلات مغتربين ومساعدات خارجية»، ويبقى التفاوت في التشوّهات العربية للنمو كبيراً، كما يرى قرم، وهو تفاوت ينعكس في «الديناميات الاقتصادية المحلية»، ويقلل من تشابه المعوقات العربية ومن تشابه آليات تجاوزها في استراتيجيات تنمية متفارقة بالضرورة.
5. مؤشر الهجرة ونزوح الأدمغة كنتيجة لارتفاع معدل البطالة وخصوصاً في بلدان شمال إفريقيا، وقد بلغ إجمالي المهاجرين من خمسة بلدان (الجزائر ومصر ولبنان وتونس والمغرب) العام 2007 بنسبة يقدرها الكاتب بحوالي 8,1 مليون مهاجر. وفي الغالب تتشابه الهجرات العربية، كما الهجرات من بلدان غير عربية، في أنها لا تعود بالاستثمارات غير الاستهلاكية والعقارية في بلدان المنشأ، ولكنها هجرات متفارقة الديناميات الثقافية والقدرات التقنية والعلاقات بالأوطان، بحسب تفارق مستويات التدهور الاقتصادي وتبعاته من البطالة، تراجع فرص الاستيعاب، تدني تدابير الحماية والتشجيع على الاستثمار.
ويضيف قرم الى مؤشرات التشويه والتشوُّه الواردة اعلاه ثلاثة أنواع من التشوّهات المعوقة للتحوّل إلى ما يُسميه «الاقتصاد السياسي للانتقال الديموقراطي في الوطن العربي»، وهي:
6. مؤشر «التمركز المالي للاستثمارات في قطاعات قليلة بما يعوّق تنويع الاقتصاد» في قطاعات قليلة وذات قيمة مضافة متدنية (النفط والبناء والسياحة والبتروكيماويات)، وقد توجهت 41 في المئة من هذه الاستثمارات إلى السعودية. وهنا لا يفرِّق قُرم، الخبير الدولي، بين مستويات اقتصادات البلدان ومستويات مردودات الاستثمارات في قطاعاتها المختلفة.
7و8. وهما مؤشران يُبيّنان «المستوى المنخفض جداً للإنفاق على البحوث والتطوير وغياب نظام وطني لدعم الابتكار» و «الفجوة المعرفية وتشرذم المؤسسات العلمية العربية القليلة»، وينعكس هذان المؤشران في أكثر معدلات الإنتاج انخفاضاً «بسبب نوعية نموها». وهنا أيضاً يعود قُرم إلى المقارنة غير التاريخية بين كوريا وتايوان، اللتين انطلقت عمليات نموّهما منذ أكثر من نصف قرن من جهة، وبين البلدان العربية التي تحكّمت باقتصاداتها آليات التبعية والتشويه السياسي والاقتصادي منذ قرن، بالإضافة الى استنزاف موارد حكوماتها في حروب خاسرة ضد توسعية الدولة الصهيونية وتحالفاتها، وكأننا بالدكتور قرم يحرص، على تأكيد التميّز القيمي الثقافي والحضاري لشعوب شرق آسيا، بالمقارنة مع الشعوب العربية على اختلاف مواقعها وأشكال ارتهاناتها ومستويات نمو وتخلّف مواردها البشرية والاقتصادية.
وفي مثل هذه المقارنة المتجاوزه للفوارق بين الظروف الإقليمية الجيوسياسية والظروف الجيواقتصادية للمنطقتين العربية والشرق آسيوية، غاب عن بال الكاتب أن هذه الظروف جاءت ملائمة في مطلع الستينيات، لا قبل عقد من السنوات ولا بعد عقد، لانطلاق العملية التنموية في كوريا، يحركها بلوغ نموذج التصنيع الياباني الذي تشارك الدولة في بنائه مرحلة التبلور القطبي القاري، وتحوله إلى نموذج يُحتذى في الشرق الآسيوي تديره الدولة الكورية الجنوبية من خلال مؤسسات حكومية ترعى استثمارات الشركات اليابانية تُسّمى (Zaibatsu) وأخرى ترعى استثمارات الشركات الأنكلوساكسونية تُسمّى (Chaebols) .
ثانياً: بعد هذا العرض التفصيلي للمؤشرات الرئيسية لما يسميه قُرم «نموذج النمو العربي المشوّه»، نعرض لأنواع المتغيرات المطلوبة، كما يقول، على صعيد السياسات الاقتصادية الإجمالية والقطاعية الضرورية للتحول إلى ما يسميه «نموذج النمو الصالح»، يتوجه بها كخبير إلى الحكومات المرتهنة أولاً لشروط «توافق واشنطن» ولثقافة التبعية ومنها:
1. اقتراح بــ «مكافحة الفساد المرتبط بطبيعة الأنظمة السياسية» عبر توزيع الريع على دائرة مغلقة من رجال الأعمال المقربين من رئيس الدولة وكبار المسؤولين. ومن المستغرب أن يعود الكاتب في خطابه إلى دور «الخبير الدولي»، فيقترح مجموعة من التوصيات يستعصي على من يُشير إليهم في الحكم وينسب إليهم المسؤولية عن البطالة وتدهور البيئة وتقهقر الموارد البشرية والطبيعية (رئيس الدولة وكبار المسؤولين)، أن يغيّروا نهجهم في تجديد مصالحهم وسلطاتهم الزبائنية القائمة على مواصلة الفساد والإفساد والاستبداد.
2. واقتراح بـ «تنويع الاستثمارات والحدّ من هجرة الأدمغة»، وفي هذا الاقتراح يُشير الكاتب - المرجع إلى مسؤولية الحكام في تركيز الاستثمارات في «قطاعات ذات أرباح مرتفعة وذات قيمة مضافة متدنية ومنها قطاعا العقارات والمصارف خاصة». ويواصل هنا أيضاً دوره المُستَغرَب «كخبير دولي» في اقتراح معالجات جذرية يفترض أن الحكومات، التي يحسُن في نصه بالذات، تحميلها مسؤولية تعويق النمو، أن تُقدم عليها في القطاعات والمناطق. هذا بالإضافة إلى شراكات ضرورية يقترحها على الحكومات مع القطاع الخاص على الطريقة الكورية، بالإضافة إلى إنتاج معدات في خدمة البيئة، و «عقود من الباطن مع دول متطورة في قطاعات تكنولوجيا المعلوماتية والصحة والأدوية، وتنمية المناطق الريفية والصناعات الميكانيكية، ودمج القطاع اللانظامي بالقطاع الحديث، والقضاء على الأمية» وغير ذلك من الاقتراحات، بمعالجات يُدرك استاذنا الدكتور قُرم مدى عجز الحكومات العربية عن مواجهة مثل هذه التحديات التنموية. وهو القائل «أظهر التاريخ أن الاقتصادات ذات القاعدة الريعية أنتجت على الدوام أنظمة سياسية استبدادية تعتبر النخب الحاكمة فيها الموارد الطبيعية والبشرية بمنزلة ملكية إقطاعية موروثة لها تستطيع التصرف بها كما يحلو لها».