الشرق الأوسط خطر ثانوي والصين خطر وازن

الشرق الأوسط خطر ثانوي والصين خطر وازن

في سنوات مهنتي العسكرية، كانت أحوال العالم أكثر خطورة مما هي عليه اليوم: من أزمة الصواريخ الكوبية مروراً باحتمال انزلاق الجيشين الأميركي والسوفياتي إلى مواجهة في شارلي بوينت (الحدود بين برلين الغربية والشرقية) وصولاً إلى استنفار القوات النووية الأميركية في أزمة 1973 في الشرق الأوسط... ولكن أحوال عالم اليوم تفوق عالم الأمس تعقيداً وتشابكاً، في الشرق الأوسط على وجه التحديد، وفيما عرف، إلى وقت قريب، بسورية والعراق. والتزام نهج سياسي في المنطقة عسير. فالعراق لم يعد موجوداً ولا سورية، وعقد لبنان يكاد ينفرط. وقد ينفرط عقد ليبيا. فاتفاقات سايكس- بيكو التي رسمت حدود هذه الدول على الخرائط نزولاً على طلب القوى الأوروبية في 1916، لم تراع واقع أحوال هذه المناطق، ولم تكن مرآة أمينة لها. ولن تعرف المنطقة الاستقرار في العقدين المقبلين وربما في العقود الثلاثة المقبلة. ولا أعرف مآل الأمور، ولكنني أعتقد أن عجلة سياسة ترمي إلى إحياء هذه الدول لن تدور ولا ترتجى منها فائدة.

 


وسياسة إدارة أوباما الرسمية تسعى إلى الحفاظ على وحدة العراق. وهذه السياسة تخلف أثرها (السلبي) في قرارات مثل تسليح الأكراد. وأرى أنهم الحلفاء الأمثل للأميركيين في المنطقة. فمصالحهم (الأكراد) تقتضي التحالف مع الغرب مهما تغيرت الأحوال وآلت إليه الأمور. وينجم عن حسبان أن في الإمكان إحياء العراق وسورية، استبعاد خيارات (بديلة) فتتفاقم المشكلة. فلا أحد يرى جيشاً عراقياً يستعيد الأنبار، ولا جيشاً عراقياً قادراً على استعادة الموصل. والجيش الذي استعاد تكريت هو ميليشيا شيعية يدعمها ضباط إيرانيون. ويعصى الخيال أن تعود سورية إلى سابق عهدها. وعلى رغم أنهما من أعضاء الأمم المتحدة، تبددت هاتان الدولتان، ولم يعد لهما وجود.

وبعض المراقبين يرون أن الحل هو إرساء دولة فيديرالية عراقية لا مركزية في وقت لا تقبل قوى إقليمية مثل إيران وتركيا استقلال كردستان. وأمام السؤال عن حظوظ مثل هذه الفيديرالية إذا كانت أميركا فحسب تدعمها، أقول أن الدعم الأميركي يعتد به ولا يستخف به. وأتفهم معارضة تفتت سورية والعراق. ولكن العودة إلى التاريخ، تظهر أن العراق كان منقسماً إلى ثلاث ولايات عثمانية، كردية وسنّية وشيعية: ولاية الموصل وولاية بغداد وولاية البصرة. وما نسميه اليوم العراق لم يكن موجوداً. وهذه الوقائع الضاربة الجذور والراسخة. ولا أرى أن دولة العراق ودولة سورية ستعودان إلى الحياة. ويجب البحث عن بدائل. ولذا، أدعو إلى تسليح الأكراد مباشرة.

وفي وقت أول، حري بنا توجيه الضربات إلى «الدولة الإسلامية» وإضعافها من طريق اللجوء إلى القوة الجوية واستهداف بنيتها اللوجيستية ومقرات قيادتها وقادتها. وفي مرحلة ثانية، يجب احتواء تمددها والحؤول دونه. فتقدم هذه «الدولة» في سيناء مدعاة قلق أكثر من سيطرتها على الرقة. وتجب حماية حلفائنا في المنطقة. وفي مرحلة ثالثة، علينا مساعدة المسلمين القادرين على مكافحة (داعش) وقتاله على المستوى العقدي. فالنزاع اليوم مداره على فهم الإسلام وتأويله. فما يجري اليوم هو نزاع في الإسلام يشبه ما اختبرته الشعوب والدول المسيحية في القرن السابع عشر في حرب الثلاثين عاماً. ويعيد المؤرخون الحداثة الأوروبية إلى معاهدة فستفاليا، حين أرسي فصل الدين عن الدولة. وهذا ما لم ترَ حضارات أخرى موجباً له. وليس القول أن النزاع لا صلة له بالإسلام في محله. وعلى رغم أنه لا يتناول الإسلام كله ولا المسلمين كلهم، فالنزاع وثيق الصلة بالإسلام. وحري بنا مساعدة المعتدلين. وليست قوة الاعتدال في الإسلام في المتن. ومهما كان الرأي في قسوة إدارته السياسية في مصر، يقترح الرئيس عبدالفتاح السيسي بديلاً. ففي خطابه في جامعة الأزهر، دعا إلى ثورة في الخطاب الديني الإسلامي. وهذه الدعوة هي على الأرجح وراء استئناف المساعدات العسكرية الأميركية.

 

إيران دولة أم حركة؟

أرى أن عام 1979 كان منعطفاً رجحت فيه كفة مقاربة ايديولوجية ترى أن النزاع مع الغرب لا مناص منه، إثر بروز «القاعدة» في أفغانستان، وبلوغ الملالي السلطة في إيران. وتساءل كيسينجير ذات يوم: إيران هل هي دولة أم حركة (مشروع)؟ ولست متأكداً أن النظام الإيراني حسم المسألة بَعد. ولا أخفي قلقي إزاء اتفاق نووي في إيران. فلو كانت شروطه جيدة، يسبغ الاتفاق مشروعية على إيران ويرفعها إلى مصاف دولة صناعية نووية على بعد 12 شهراً من تصنيع سلاح نووي وحيازته. وهو يستقبلها في مجتمع الأمم ويرفع عنها العقوبات من غير أن نعرف إذا كان الإيرانيون ينوون العدول عن سياسة الهيمنة التي ترمي إلى زعزعة استقرار المنطقة.

حين كنت على رأس وكالة الاستخبارات الأميركية، تناولت تحليلاتي سيناريوات دارت على مستقبل أوروبا. وأذكر اثنين منها، الأول يتخيل أوروبا إذ تتحول إلى منتزه جذاب وتفقد نفوذها، والثاني عنوانه «أوروستان». وهذا السيناريو سلط الضوء على مخاطر أسلمة أوروبا. وهذه المشكلة، أساء الأميركيون تقدير حجمها. ويد فلادمير بوتين لا تلين، ولكن جعبته خاوية من الأوراق الراجحة الوازنة. ولا شك في أن العدوانية تؤدي إلى مشكلات جدية في الأمد القصير، ولكن في الأمد البعيد روسيا هي قوة تذوي وتأفل. فالوهن أصاب رموز القوة الروسية أو مصادر قوتها- الاقتصاد المزدهر، والديموقراطية والغاز والنفط. وتعود وسائل القوة الروسية إلى العهد السوفياتي: الفيتو (حق النقض) في مجلس الأمن، وما تبقى من القدرات العسكرية والنووية. وعسير حسم الرأي في ما إذا كان الخطر على دول البلطيق داهماً. وثمة ما يحمل على الشفقة في العدوانية الروسية على حدود الأطلسي. وكأن هذه العدوانية تسعى إلى إحياء مكانة موسكو العظمى التي أفلت وذوت. ولا مناص من الإقرار بأن العملية العسكرية في القرم كانت بالغة المهنية. ولذا، حري بنا التزام الحذر في الأمد القصير. وأرغب في أن تنتهج أميركا نهجاً أكثر حزماً وقوة في أوكرانيا للحؤول دون انزلاق بوتين إلى هفوات. ولو كنت في موقع المسؤولية، لسلحت الأوكرانيين.

ليست الصين خصم الولايات المتحدة، على رغم أن العلاقة بينهما تتسم بالتنافسية والتنازع. وأشعر بالقلق إزاء الأنشطة العسكرية الصينية في بحر الصين والتجسس السيبرنيطيقي الصيني في الولايات المتحدة. ولكن ما يشغل الاستخبارات الأميركية هو القلق إزاء المشكلات البنيوية الصينية على قدر ما تشغلها قوة الصين. وهذه تجبه تحديات كبيرة: سكانية، وبيئية واجتماعية- اقتصادية (التوزيع غير العادل للثروات)... والخطر المباشر اليوم مصدره «الدولة الإسلامية».

وهو خطر جدي ولكنه ليس جوهرياً ولا يتهدد بقاء أميركا. وإيران ومسألة انتشار السلاح النووي هما مصدر خطر أكبر. ولكن الخطر الأبرز والأكثر جدية اليوم مصدره الصين، على رغم أنها ليست عدوة. ولكنها أكثر المسائل الوازنة في مستقبل السلام العالمي.