الديمقراطية أية ديمقراطية؟

الديمقراطية أية ديمقراطية؟

لقد كانت فكرة عبقرية أن اختارت دبلوماسية حلف الأطلنطى فى السبعينيات موضوع الديمقراطية لهجومها الموجه لتفكيك الاتحاد السوفييتى واستعادة بلدان شرق أوروبا. وقد تبلور هذا القرار فى منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا،
 



وخاصة فى التوقيع على معاهدة هلسنكى لعام 1975. ويشرح جاك أندريانى فىكتابه المعنون: «الفخ: هلسنكى وسقوط الشيوعية» كيف أن السوفييت الذين توقعواالحصول على نزع سلاح الناتو والوصول إلى حالة استرخاء حقيقى قد تعرضوا لخديعةمن جانب قوى الغرب.

لقد كانت ضربة عبقرية لأن قضية الديمقراطية كانت قضية حقيقية نظراً لأن الأنظمةالسوفييتية لم تكن ديمقراطية كيفما عرفنا مبادئها وممارساتها. أما بلدان حلفالأطلنطى فكان من حقها أن تصف نفسها بالديمقراطية بغض النظر عن الحدودوالتناقضات فى ممارساتها السياسية الفعلية الخاضعة لمتطلبات إعادة إنتاج الرأسمالية.فالمقارنة بين النظامين كانت تعمل لصالحهم.

ثم جرى بالتدريج التخلى عن الحديث عن الديمقراطية وإحلال الحديث الذى أيدهالسوفييت عن «التعايش السلمي»، و«عدم التدخل فى الشئون الداخلية» محله.

لقد كان للحديث عن التعايش السلمى بريقه فى أيام نداء ستوكهولم فى الخمسينياتعندما كان يذكر الناس بالخطر النووى الحقيقى المتضمن فى الدبلوماسية العدوانيةللولايات المتحدة الأمريكية منذ مؤتمر بوتسدام (1945) الذى تبعه بعد أيام الهجومبالقنابل الذرية على اليابان.

وكان اختيار هذه الاستراتيجية (التعايش السلمى وعدم التدخل) مناسباً، حسب الظروف،لكلا الطرفين المسيطرين فى الشرق والغرب، لأنه سمح بقبول التعريفين: الرأسمالىوالاشتراكى على علاتهما لكل من بلدان الغرب والشرق. وقد استبعد أى نقاش جدىحول الطبيعة الدقيقة لأى من الطرفين: أى الرأسمالية القائمة بالفعل (الرأسماليةالاحتكارية)، وكذلك طبيعة الاشتراكية القائمة بالفعل. وقامت الأمم المتحدة (بالموافقةالضمنية لقوى الطرفين) بتغيير التعبيرين: الرأسمالية والاشتراكية، إلى اقتصادياتالسوق، والاقتصاديات الموجهة مركزياً (وعلى سبيل التشويه: الاقتصاديات الموجهةإدارياً).

وهذان التعبيران، وكلاهما غير صحيح، أو صحيح بشكل سطحى فقط، جعلا منالممكن تأكيد إمكانية التقاء النظامين، وهو التقاء تفرضه التكنولوجيا الحديثة (وهىنظرية خاطئة هى الأخرى مستمدة من نظرة أحادية تكنيكية للتاريخ). كذلك جرى قبولالتعايش السلمى لتسهيل هذا الالتقاء، أو لإثبات العكس وهو التضاد المطلق بينالنموذج «الديمقراطي» (المرتبط باقتصاد السوق)، و«الشمولية» (المرتبطة بالاقتصادالموجه إدارياً)، وذلك فى بعض اللحظات خلال الحرب الباردة.

واختيار التركيز على خوض المعركة فى ميدان حديث الديمقراطية سمح بافتراضتحجر كل من النظامين، وبذلك صار الخيار الوحيد الممكن لبلدان الشرق هوالاستسلام والعودة للرأسمالية (أى السوق)، الذى سيؤدى عندئذ، وبشكل طبيعي،للمقرطة. أما أن هذا لم يحدث (لروسيا السوفيتية)، أو بشكل كاريكاتورى (لبعضالجماعات الإثنية هنا وهناك فى أوروبا الشرقية) فأمر آخر.

واستخدام بلدان التحالف الأطلنطى لحديث الديمقراطية هو فى الواقع أمر جديد، ففىأول الأمر كان الناتو يتعامل بسلاسة كاملة مع سالازار فى البرتغال، ومع الجنرالاتالأتراك، ومع الكولونيلات اليونانيين. وفى الوقت ذاته، دعمت دبلوماسية بلدانالثالوث (وكثيراً ما أقامت) أسوأ الدكتاتوريات التى شهدتها شعوب أمريكا اللاتينية،وإفريقيا، وآسيا.

وقد استخدم حديث الديمقراطية هذا فى أول الأمر بحرص كبير، فقد تفهمت سلطاتالناتو المشاكل التى قد تعرقل خططهم المفضلة للسياسات الواقعية. ولم تُفهم القيمةالأخلاقية للموعظة الديمقراطية إلا فى عهد الرئيس كارتر (وهو ما يشبه أوضاعأوباما الآن). وكان ميتران فى فرنسا هو الذى قبل التخلى عن سياسة ديجول فى رفضانقسام أوروبا فى ظل استراتيجية الحرب الباردة التى فرضتها الولايات المتحدة.وأثبتت خبرة جورباتشيف فى الاتحاد السوفييتى فيما بعد، أن هذا الحديث أدى للكارثة.

وهكذا حقق الحديث الديمقراطى الجديد ثماره، فقد بدا مقنعاً لليسار الأوروبى بما سمحبتأييده، لا فقط من جانب اليسار الديمقراطى (الاشتراكيين)، ولكن أيضاً من جانبالأكثر راديكالية مثل الشيوعيين، وبانضمام الشيوعيين الأوروبيين صار التوافق عاماً.

وتعلمت الطبقات السائدة فى الثالوث الإمبريالى الدرس من نجاحها، فقد قررتالاستمرار فى استراتيجية التركيز على الجدل حول «قضية الديمقراطية». فالصين لايوجه لها الانتقاد لفتح اقتصادها للعالم الخارجى وإنما لأن سياساتها يوجهها الحزبالشيوعي. ولا يهتم أحد بما حققته كوبا من منجزات اجتماعية لا مثيل لها فى كاملأمريكا اللاتينية، ولكن يجرى الانتقاد لنظام الحزب الواحد، بل يوجه نفس الحديثلروسيا بوتين.

فهل انتصار الديمقراطية هو الهدف الحقيقى لهذه الاستراتيجية؟ من السذاجة بمكانتصديق ذلك، فالهدف الوحيد هو أن يُفرض على البلدان الرافضة الانخراط فيما يسمىالنظام العالمى الليبرالي. وهو هدف إمبريالى الغرض منه تحويل هذه البلدان إلى تخوممسودة للنظام. وتحقيق هذا الهدف يعرقل فى الواقع تطور الديمقراطية فى البلدانالمعنية وليس بالمرة تحقيق تقدم فى اتجاه «قضية الديمقراطية».

إن فرص التقدم فى طريق الديمقراطية للبلدان التى كانت تمارس الاشتراكية كما هىفى الواقع، كانت أكبر بكثير فى المدى المتوسط إن لم يكن فى الحال. فقد كانتجدلية الصراع الاجتماعى ستتطور من تلقاء ذاتها لتتجاوز حدود الاشتراكية كما هى فىالواقع للخروج من النفق.

وفى الواقع، لا يثار الحديث عن الديمقراطية إلا فى حالة البلدان التى لا ترغب فىالانفتاح على الاقتصاد العالمى المعولم. والعربية السعودية وباكستان دليل واضح علىذلك، وكذلك جورجيا وغيرها من البلدان الميالة لتحالف الأطلنطي.

وعلاوة على ذلك، ففى أحسن الأحوال، لا تتجاوز الصيغة الديمقراطية المقترحة الصورةالكاريكاتورية للانتخابات متعددة الأحزاب التى ارتبطت دائماً تقريباً بالتراجع الاجتماعىالذى تفرضه سيطرة الرأسمالية كما هى قائمة اليوم (أى الاحتكارية). وقد أضرت هذهالصيغة بالديمقراطية فعلاً مما دفع الكثير من الشعوب المرتبكة بسبب ذلك، للتوجهنحو الارتباط الدينى أو العرقى بالماضي.

لذلك يصير من المهم جداً اليوم تدعيم الدور الانتقادى لليسار الراديكالى (وأؤكد هناعلى الراديكالى لأن الانتقاد اليسارى العام غامض ومربك). وبعبارة أخري، ذلكالانتقاد الذى يربط بين مقرطة المجتمع (وليس مجرد إدارته السياسية) مع التقدمالاجتماعى (فى اتجاه الاشتراكية). فمن وجهة نظر هذا الانتقاد، النضال من أجلالمقرطة والنضال من أجل الاشتراكية كل لا يتجزأ. فلا اشتراكية بدون ديمقراطية،وكذلك لا يمكن تصور التقدم الديمقراطى بدون الهدف الاشتراكي.