الحرب في زمن العصابات وشبه الدول

الحرب في زمن العصابات وشبه الدول

السبيل إلى هزيمة «داعش»، وهي شبه دولة، هو تصديع تماسك قواها العسكرية وتفتيت وحدتها. ولكن هذه الهزيمة العسكرية تقتضي الوقت والصبر. ولن يسع «داعش» الصمود أمام قوة التحالف الدولي العسكرية. ولكن إلحاق الهزيمة العسكرية بشبه الدولة هذه لن يذلل المشكلة عن بكرة أبيها. فالغلبة نادراً ما تكتب للقنابل في مواجهة مع الأفكار. ويقوّض احتمالات مثل هذه الغلبة ميل الأزمة، وهي غير عالمية، إلى التعولم. فعلى رغم أن الجانب الأمني منها يقتصر على رقعة جغرافية محددة، الروافد التي تغذي الأزمة تأتي من كل حدب وصوب على وجه المعمورة: انتقال التكنولوجيا، وحركة النقل المالي، والبروباغندا، وشبكات التجنيد. ولذا، يجب تنسيق عمليات مكافحة ما يغذي هذه الأزمة على مختلف المستويات؛ واحتساب الجانب الشامل للأزمات وليس النظر إليها نظرة مجهرية تقصرها على منطقة من دون غيرها.

 


فالأزمة هي جسم حي ينمو ويضمر، وقد تشتعل وتنطفئ. وليس في الأمكان معالجة جسم حي معالجة ميكانيكية موضعية. وغالباً ما يتوسل بالحلول الجاهزة إلى معالجة الأزمات عوض اللجوء إلى حل على مقياسها. واليوم، الأزمة تأخذ منحى ثلاثي الأبعاد. وعليه، يجب احتساب 4 إلى 5 عوامل في إعداد العمليات العسكرية وتخطيطها، أولها هو انقلاب نماذج الخصومة التقليدية رأساً على عقب. واليوم تسعى عصابات اجرامية وإرهابية أو مافيوية الى الارتقاء الى مصاف الدول من طريق بسط نفوذها على اقليم والقيام بوظائف الدولة (اصدار القوانين؛ وسك العملة؛ جباية الضرائب؛ انشاء جيش وشن حرب وإبرام سلام؛ جباية الضرائب الجمركية؛ بسط الأمن الداخلي؛ الأحكام القضائية والعفو؛ وإدارة الشؤون العامة). وهذا ما يفعله «داعش». وفي وقت تسلك العصابات هذه سلوك الدول، تتوسل الدول بعصابات وسيطة لجبه التنظيمات هذه. ولكن ما الغاية من توسل القوة؟ هل لا تزال امتداداً للغايات السياسية من طريق وسائل أخرى (غير سياسية)؟

وثاني العوامل هو احتساب الحلقات المتصلة بين الأزمات الخارجية والأمن الداخلي. فهذه الحلقات المتصلة تقتضي تنسيقاً وتعاوناً اكبر بين الجيوش التي تخوض «المعارك على الجبهات الأمامية» في العمليات الخارجية وأجهزة الدولة التي تتولى حماية المواطنين في الداخل. فنحن ولجنا عالم «الما بين»: التنسيق ما بين الأجهزة والوزارات والمؤسسات الدولية. وللمرة الأولى تجتمع اجهزة الاستخبارات الفرنسية كلها في مركز اعداد العمليات (العسكرية) وقيادتها! وهذه خطوة متقدمة وكبيرة. والعامل الثالث وثيق الصلة بسياق الأزمة - وهو يخلف أثره فيها ووسائل جبهها: تآكل الحق الدولي الذي لم يعد مرجعاً جامعاً في حل الأزمات. فمنظمات مثل «داعش» و»القاعدة» تتجاهل القانون الدولي. والعامل الرابع كذلك وثيق الصلة بسياق الأزمة، وهو ظاهرة «وور فاتيغ» war fatigue (إنهاك الحرب) في الغرب. ويصيب هذا العرض الدول التي مضى على خوضها الحرب 15 سنة، ومنها الولايات المتحدة وعدد من حلفائها ممن حاربوا من غير انقطاع في العراق وأفغانستان. فالأميركيون خسروا 4 آلاف قتيل في حرب العراق وأنفقوا 4000 بليون دولار. والكلفة المادية والبشرية والسياسية هي وراء الحذر إزاء المشاركة في عمليات خطرة وطويلة الأمد في وقت يعصى مجتمعات تظهر عليها علامات «إنهاك الحرب» إدراك أن الخطر على مصالحها مباشر ووشيك، على رغم أنه يبدو قصياً. فعلى سبيل المثل، قال وزير الدفاع البريطاني السابق حين دعوته دعوة ملحة الى زيارة افريقيا الوسطى، أن المساعي الفرنسية هناك عظيمة، ولكن مواطنيه لا يعرفون اين يقع هذا البلد. وإجماع دول الاتحاد الأوروبي على عمليات خطرة وباهظة الكلفة في مناطق بعيدة لا تهدد مباشرة مصالحها، بالغ العسر.

ومن نتائج هذا العَرَض: انفكاك العمليات العسكرية، الى حد بعيد، عن التحالفات العسكرية التقليدية مع الناتو أو الاتحاد الأوروبي. ففي كل عملية، يشكل حلف خاص على نحو ما تملي الأزمة. فنتعاون مع شركاء لا تجمعنا بهم معايير عسكرية ومعايير عملانية ثقافية مشتركة. وقصر التحالف أو الائتلاف على مجموعة حسابية من الرجال أو العتاد لا ترتجى منه فائدة عسكرية.

ودار أخيراً كلام مدير مركز أبحاث فرنسية على حرب تمتد ثلاثين عاماً، وقد يكون متفائلاً أو مصيباً. ولكن خلاصة التجارب والخبرات تظهر أن الأزمة لا تحتسب بمقياس السرعة والوقت. فكل أزمة تتسم بوتيرة بيولوجية خاصة بها. ونتائج التدخل الفرنسي في مالي لا يستخف بها، فهي عبدت الطريق امام اجراء انتخابات وإبرام اتفاق سلام. وأبعدت القوات الفرنسية بالتعاون مع الشركاء المحليين من ميدان المعارك 70 عضواً في «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، واعتقلت 60 منهم ودمرت مئات الأطنان من العتاد والذخائر. ولم يطوَ النزاع في مالي، ولكن قدرات المجموعات الإرهابية ضعفت وانحسرت. وتنظم عمليات مشتركة عابرة للحدود مع مجموعة «دول الساحل الخمس» - وهي تجمع 5 من دول الساحل (الأفريقي) - المعرضة لخطر «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». وهذا التعاون يرمي الى بسط هذه الدول سيطرتها على المنطقة.