التغيّـر الاجتماعي في ألمانيا... بين التقوقع على النفس والانفتاح

التغيّـر الاجتماعي في ألمانيا... بين التقوقع على النفس والانفتاح

في العقدين الماضيين، درجتُ، وأنا ابن عاملين وفدا من الأندلس إلى ألمانيا للعمل في السبعينات وأحمل شهادة جامعية في الصحافة، على تقصي أحوال الهجرة في هذا البلد. ووقع عليّ الاختيار في الهيئات التحريرية الصحافية وكلفت بإبلاغ الألمان تجربة العيش سنوات طويلة في هذا البلد الغريب من غير نيل جواز ألماني. وحياة أهلي في ألمانيا هي نموذج الإخفاق في الاندماج. فأمي وأبي لا يتحدثان الألمانية بطلاقة، ولا تربطهما صداقة بألمان. ولكن كل منهما، والحق يقال، لا يتلفظ بما قد يسيء إلى ألمانيا البلد الذي صار موطنهما. وإلى اليوم، لا يتوجه موظف البنك إلى أبي بالقول «زي» (سيدي أو حضرتك)، على نحو ما يفعل مع سائر الزبائن، ويرفع الكلفة معه. وذات يوم قال لي مدرس: منذ هزيمة أسطولكم البحري، الأرمادا، لا يعتد بكم ولا قيمة لكم أنتم الإسبان». وحين كنت أشكو مثل هذه الحوادث، كان والدي يقول إنها «حالات» على حدة لا تمثل الألمان، على رغم كثرتها. فـ»الألمان وفروا لنا عملاً في وقت كانت إسبانيا عاجزة عن إطعام شعبها». وعلى رغم أنهما لم يندمجا في ألمانيا، يغلب الانفعال على والداي حين الكلام عنها وتعمهما مشاعر العرفان.

 


ولكن هل تغير الألمان فعلاً ولم يعودوا إلى كراهية الأجنبي ومناوئته؟ لا شك في أن وجه ألمانيا تغير: عمدة برلين مثلي، والمستشارة سيدة من غير أولاد وهي في زواج ثان، وسبق لها الطلاق. وثمة سياسي انتخب حاكماً على رغم أنه أنجب خارج الزواج. والموسيقى التي يستمع إليها من هم في الستين من العمر وتزين أجسادهم أوشام كثيرة، صاخبة أكثر من موسيقى جيل الأولاد، وسراويلهم أوسع وفضفاضة. لا شيء في ألمانيا على حاله السابقة. وارتقت مباريات كأس العالم 2006 التي استضافتها ألمانيا إلى مصاف رمز هذا التحول والانقلاب إلى بلد مطمئن وخفيف الظل. ولكن إذا الأمور على هذه الحال من الخفة والتنور، ماذا وراء شن 200 هجوم على فنادق المهاجرين في ألمانيا في النصف الأول من العام؟ وما مكانة المد النيو- نازي في ألمانيا الجديدة؟ قدتُ سيارتي إلى داسلدورف لمقابلة رجل أرى أنه يجسد ألمانيا التي يتكلم عنها والدايّ: أرمين لاشيت، نائب رئيس حزب انغيلا مركل، الاتحاد المسيحي الديموقراطي. وهو على رأس المعارضة في برلمان ولاية شمال الراين – فستفاليا. وبين 2005 و2010، كان لاشيت وزير الاندماج في حكومة الراين- فستفاليا الشمالية، وأول وزير اندماج في ألمانيا. وقبل شغله هذا المنصب، لم يملك وزير الاندماج فريق عمل ولم تخصص لوزارته موازنة، ولم يرفع إلى الحكومة تقارير. واقتصر دور أسلافه على تمثيل شكلي للمهاجرين. ولم يُعتد بدورهم. ولكن لاشيت غيّر ما كانت عليه الأمور: فهو ساند المهاجرين على رغم انه ليس يسارياً ولا ممثل حزب الخضر، ولم يرفع لواء المُثل واليوتوبيا ولم يؤيد نهج التعدد الثقافي، بل انتمى إلى «الاتحاد المسيحي الديموقراطي». وهو قال ما لم يسبق أن قاله سياسي مسيحي ديموقراطي. فعلى سبيل المثل، أعلن: «لا فرق بين ألماني اسمه أوزتُرك (أوزتورك) وألماني اسمه شميدت».

 

ألمانيا بلد مهاجرين؟

ساهمت حكومة يمين الوسط على رأسها المستشار غيرهارد شرودر في تغيير مكانة المهاجرين. وانتهت ولايتها حين تسلم لاشيت منصبه. وأُقر قانون جديد للجنسية. وبدأت عجلة سياسة الاندماج تدور. وتولى لاشيت الدفاع عن حقوق المهاجرين ومصالحهم. وعلى رغم أنه محافظ كاثوليكي من آخن، أيد حقوق أبناء الجنوب الأوروبي والسنتيين (من أوروبا الوسطى) والمسلمين. وكانت سياسته الدليل على أن التغيير ممكن وغير متعذر: فالتغيير بلغ حزب هلموت كول الذي أعلن في 1991 أن ألمانيا ليست بلد هجرة. وإثر حريق مفتعل في سولينغن في 1993 أودى بحياة ثلاث صغيرات، لم يعلن كول تعاطفه مع القتيلات كما لو أن التعاطف والعزاء يحملان إقراراً بالذنب. وابتكر عبارة «سياحة العزاء»، ورفض المشاركة في جنازة الضحايا. وعلى خلافه، زار ارمين لاشيت قبر الضحايا في تركيا ودشن لوحة تذكارية. وساهم في قلب أكبر حزب سياسي في ألمانيا رأساً على عقب. ويحفظ لاشيت الملقب بـ«لاشيت- التركي» أعداد المهاجرين عن ظهر قلب: 16.5 مليون نسمة في ألمانيا يتحدرون من عائلات مهاجرين، 9.7 مليون منهم مواطنون ألمان. وثمة 4 ملايين مسلم في ألمانيا نصفهم مواطنون، و96.6 في المئة من المتحدرين من المهاجرين يعيشون في ألمانيا الغربية السابقة، و3.4 في المئة منهم، أي حوالى 570 ألف نسمة، يعيشون في ألمانيا الشرقية. وسألته عن حرق فنادق اللاجئين وعن أعمال شغب اليمين في البلدة الساكسونية هايدينو، وعن تعاظم عدد اللاجئين في ألمانيا، فقال إن أحوال اليوم تذكره بالأمس قبل 20 سنة حين تدفق الآلاف إلى ألمانيا هرباً من حرب البلقان، ووسعها يومها التكيف معهم واستيعابهم. ولكن هذه المرحلة كان وقعها هو الأقسى على عائلتي وأمثالها. فوالدي خسر عمله شأن ثلث العمال الأجانب في برلين بين 1993 و2003. واضطر هؤلاء إلى التنافس في سوق العمل مع القادمين من شرق ألمانيا، أي أولئك الأفقر منهم. وسُرح عدد من أصدقاء والدي من عملهم، وعادوا إلى إسبانيا بعد عشرين عاماً من العمل في ألمانيا، ولم يجدوا هناك فرصة عمل وخرجوا نهائياً من سوق العمل.

ولم ينس أي مهاجر في ألمانيا حوادث هويرسوردا في 1991 (هجمات على المهاجرين) ولا حوادث مولن 1992 أو العنف الدموي في روستوك – ليختنهاغن في العام نفسه. وانقسمت وسائل الإعلام في الرأي يومها حول مسألة المهاجرين. بعضها كان لسان حاله: لا أحد غير شرعي»، وبعض آخر قال: «المركب ممتلئ (ولا يتسع لغير الألمان)!». وغلبت كفة معارضي اللجوء، وفرضت قيود كثيرة على حق اللجوء. ولم تهدأ الأمور قبل بدء انحسار أعداد اللاجئين. وفي هذه الأوقات العصيبة، فكر والدي للمرة الأولى في حياته في مغادرة ألمانيا. وأحسبُ أن الألمان لم يدركوا فعلاً أثر هذه المرحلة في كثر من الأتراك والإيطاليين والإسبان والعرب المقيمين في ألمانيا.

ولا شك أن شطراً راجحاً من الأجانب يعرفون أن الألمان لا يكرهونهم ويرفضون العنف ضدهم، على نحو ما يدرك الألمان أن المسلمين كلهم لا يؤيدون دعاة العنف والإجرام ولا «الدولة الإسلامية» في سورية. ولكن على رغم هذه المعرفة، يلتف طيف القلق على الألمان ويؤرقهم شعور بأن «الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا»، على رغم أنه حل في أرضهم منذ أكثر من 40 عاماً. وثمة كثر يرفعون علماً يزينه الهلال على شرفات منازلهم، وكثر ممن لم يزوروا يوماً تركيا يشجبون مسعود أوزيل لأنه يلعب في الفريق الوطني الألماني وليس في نظيره التركي. وخلاصة ما قاله لاشيت هي: طالبو اللجوء في ألمانيا من دول البلقان سيرّحلون، والآخرون ستعتني بهم ألمانيا ويعودون إلى بلدهم حين يعمه السلام. وهو يسعى إلى إقناع الاتحاد المسيحي الديموقراطي والاتحاد الاجتماعي المسيحي- توأم الاتحاد المسيحي الديموقراطي في بافاريا- بدعم قانون هجرة جديد في ألمانيا لاستقطاب مهاجرين من أصحاب الكفاءات. ففي بافاريا، تشح أعداد العمال من أصحاب الكفاءات والمهارات، وينحسر عدد الشباب ويشيخ المجتمع، وعائدات (مصادر) معاشات التقاعد تنخفض. ولا حل أمام ألمانيا غير تشريع أبواب الهجرة للخروج من هذا الطريق المسدود.

الخوف اليوم يعم الألمان. وهذا شعور بشري سائر. فالخوف من «كثرة أعدادهم (الغرباء)» ليس وليد اليوم. ففي نهاية القرن التاسع عشر، خشي الألمان من مترتبات تدفق أعداد كبيرة من البولنديين على بلدهم. فهؤلاء المهاجرون كانوا من الكاثوليك. وفي 1945، طرد أكثر من 12 مليون ألماني من مناطق خسرتها ألمانيا إثر الحرب العالمية الثانية. وفي 1947، 24.3 في المئة من سكان المنطقة السوفياتية، أي ما عرف لاحقاً بألمانيا الشرقية، كانوا من اللاجئين والمُرحلين. وأفهم خوف الألمان اليوم، ولكنه لا يسوغ العنصرية.

ولاشيت لم يجب سؤالي: هل أصبح الألمان أكثر انفتاحاً على الأجانب في العقدين الماضيين؟ وغالباً ما يرافق خطابٌ سياسي متطرف تناول مسائل مثل الرهاب الألماني وتعدد الثقافات واستغلال اللجوء ورفض الاندماج والنقاش حول حجاب الشعر وكتاب ثيلو سارازين و«بيغيدا» (حركة معادية للمسلمين). ويقال للأجانب أن عليهم أن يتعلموا كلمة أخرى غير «المساعدات الاجتماعية»، أو أن يتكلموا الألمانية في بيوتهم. ويدور كلام على روائز ذكاء للمهاجرين وترحيل قسري إلى مناطق أخرى للحؤول دون نشوء «غيتوات» (حارات متجانسة السكان)، وإلزام الأئمة استخدام اللغة الألمانية في خطبهم، وترحيل من لم ينجح في امتحان اللغة الألمانية وقطع المساعدات الاجتماعية عن غير الألمان.

ويُخلص مما يسوقه لاشيت إلى أن ظواهر مثل الحزب اليميني الشعبوي، «البديل من أجل ألمانيا»، والحركة المعادية للمسلمين «بيغيدا»، وحرق فنادق تستقبل اللاجئين هي مرآة لفظ ألمانيا (القديمة) أنفاسها الأخيرة ومخاض ألمانيا جديدة. وإذا كانت الأمور في تحسن مستمر على نحو ما يقول لاشيت، قد نصل إلى يوم ينتخب فيه شخص اسمه محمد الفاتح مستشاراً ألمانياً.

واصلتُ رحلتي إلى لايبزيغ حيث قابلت خبيراً في شؤون الأجانب، أوليفر ديكر. وهو باحث في الاجتماعيات وعلم النفس وفيلسوف. وهو أستاذ جامعي شاغله الأكاديمي في الأعوام الـ13 الماضية هو التطرف اليميني والخوف من الأجانب. وفي دراسة نشرت العام الماضي، خلص إلى أن ميل الألمان إلى الخوف من الأجانب أصابه الوهن، وأن تأييد اليمين المتطرف تراجع، شأن معاداة السامية والتعاطف مع القومية الاجتماعية وتأييد الأنظمة الديكتاتورية.

ويرى ديكر أن لاشيت غير مصيب في رأيه، وأن تراجع رهاب الأجانب «شكلي». ويتعاظم لفظ السينتيين (قوم السينت) والغجر والمسلمين. ويرى الألمان، بحسب ديكر، أن الغرباء «نوعان»: المفيد والعقيم. «الإيطاليون حملوا إلينا مطبخهم، فيسعهم البقاء، يقول ديكر متهكماً وساخراً. والأميركيون والبريطانيون والفرنسيون والإسبان يندمجون على أحسن منوال، ويجدون عملاً ويسددون الضرائب. ولكن إذا حسِب الناس أن الوافدين الجدد لن يساهموا في الاقتصاد الألماني، استقبلوهم بالصد واللفظ. وأحدهم وصف هذا النازع بـ»عنصرية الجدوى». وينبه ديكر أن الهوية الألمانية وثيقة الصـــلة بالاقتصاد. «حتى الفقراء يشعرون بالفخر ويرون أن العالم يحسد ألمانيا على اقتصادها. وإذا هددت الهجرة الاقتصاد انفرط عقد دعم المهاجرين وقبولهم»، يقول ديكر. إذاً، هل التسامح الألماني الجديد إزاء الأجانب هو سوء تفاهم كبير؟ سألت ديكر. ابتسم قائلاً: «ألمانيا تمر اليـــوم في مرحلة ازدهار اقتصادي ساهم في تقليص رهاب الأجانب. ومآل الأمور لن يتضح قبل سنوات».

وقد تكون ألمانيا، اليوم، في مرحلة مخاض جديد. وهي تميط اللثام عن قلبها الكبير الذي لطالما أسرف أهلي في الكلام عنه. وهذا ما آمل أن تكون عليه الأمور، ولا أرغب في أن يكون المئتا هجوم على اللاجئين دليل صواب رأيي المتشائم. ولكنني لا أرغب كذلك في أن يتظاهر الكل بأن كل شيء على ما يرام لأن اللاجئين يستقبلون في ميونيخ بالترحاب والكعك. ويبدو أن ما عرفته منذ زمن طويل- أي أن غالبية الألمان لا يرغبون في بقاء الأجانب ببلدهم- يتغير. ووجهة التغيير غامضة ومجهولة. ولكنني أرى الأمل في مؤشر واحد: أكثر من 30 في المئة ممن هم دون الخامسة عشرة من العمر يتحدرون من مهاجرين. وحين يبلغون سن الزواج بعد عشرين عاماً، يتوقع ألا ينتمي نصف سكان ألمانيا إلى من يسمون «الألمان الأقحاح» أو الألمان بيولوجياً.