التأريخ المتشابك والموضعي والخصوصي... يشكّك في الهويات والروايات العريضة

التأريخ المتشابك والموضعي والخصوصي... يشكّك في الهويات والروايات العريضة

التأريخ فن من فنون الفكر، وتعريفه الاجتماعي يقدمه أولاً في صورة منهاج أو طريقة تقوم على قواعد الغرضُ منها إرساء معرفة أصفها بالمتينة أو القوية. وعلى خلاف ما يُردد دورياً، لم يطرأ جديد على أصول التأريخ المعروفة مثل إقامة الدليل، وبناء الوقائع وتأويلها، وكتابة سياق الاسباب التي تدرج الواقعة في حبكة متماسكة أو معقولة. وعلى رغم الثورة الرقمية التي قلبت رأساً على عقب وسائل التوثيق، وشرعت أبواب تناول الوثائق، لا يزال المؤرخون اليوم يعملون على شاكلة شارل سيغنوبوس وشارل – فيكتور لانغلوا اللذين كتبا، في 1898، «المقدمة في الدراسات التاريخية». فالمنهاج ينهض على ركنين أو معيارين: معيار الدقة التوثيقية الاخلاقية، ومعيار الامانة الفكرية السياسي.

 


وبناء على هذا، فالتاريخ أو الحوادث التاريخية لا يسبق عمل المؤرخ. وعلى المؤرخ إنشاء الحوادث والوقائع من جديد (أو إعادة تمثيلها»، على ما يقال في شأن الجرائم) من طريق الآثار التي خلفتها حبكاتها، على قول سائر لبول فين، مؤرخ روما المعاصر. وسبق لمؤرخ تقليدي، وهو هنري – إرينيه مارّو، أن وصف منهاج التأريخ في كتابه «في المعرفة التاريخية» (1954)، فكتب:»أننا نعرف من الماضي ما نحسبه حقيقة فهمناها مما حفظته الوثائق». وهذا يفترض أن الوثائق حفظت شيئاً، وأن المؤرخ يضطلع بجمع الوثائق وبتفحص شروط انتاج الوثائق، معاً. فهو لا يقتصر على الاحتفال بالأرشيف والتأهيل به، بل يطرح السؤال الذي يقوم مقام الركن من تقصٍ علمي: لماذا ثمة شيء (واقعة أو حادثة) وعلى هذا النحو من الوجود؟ فلولا الحادثة الاستثنائية، وهي قدوم أحد محققي محاكم التفتيش الى قرية مونتايّو في القرن الرابع عشر، لما وسع (المؤرخ الفرنسي المعاصر) إيمانويل لوروا- لادوري تناول حياة أهل القرية الجنوبية والجبلية بالوصف.

والحادثة غالباً ما تتصل بالسلطة. وفهم الماضي يقتضي سَوْقَ آثاره الى المؤرخ، وأخذه إياها على عاتقه وإدخالها في صحبته. ولا يخلو الفهم من مقتضى اخلاقي يحمل عمل التأريخ على سعي دؤوب في تضييق فجوة الغيرية واختلافها. والفهم يقوم على النسبية، ورأي المؤرخ يفقد غلبته غير المنازعة، فلا ينفرد المؤرخ بأحكامه. وخصوصية التأريخ هي فواته التكويني: فهو يتكلم على زمن لم يكن المؤرخ فيه، والمؤرخ موجود في زمن هو زمنه. ولذا لا ينقضي التأريخ ولا خاتمة له: فالوثائق الواحدة تُفهم على معانٍ مختلفة مع تقادم الزمن. والمعيار الاخير هو ضرورة حسبان الوثائق أو الآثار صحيحة أو حقيقية، أي حملها على النقد. والنقد التاريخي تراث عريق، أول معالمه برهان لورينتزو فالا في 1440 بحجج لغوية على ان هبة قسطنطين (وثيقة تزعم منح الامبراطور قسطنطين البابا والكنيسة امتيازات كبيرة) نص منحول. والمعلم الآخر هو برهان أرتور جيري، أستاذ الديبلوماسيات في مدرسة شارتر في 1899 على ان الوثيقة التي اتهم النقيب دريفوس بموجبها كاذبة. وهذا العمل دليل على احتياج مهنة التأريخ على الدوام الى تمييز الصحيح والموثوق من الموضوع والمنحول. وذلك على خلاف ما يتردد على ألسنة كثيرة منذ بعض الوقت.

وقد يكون التفكير الذاتي في التأريخ العنصر المنهجي الجديد الوحيد. فالمؤرخ المعاصر يحسب أن عليه تسويغ إنشائه موضوعه على النحو الذي ينشئه عليه، قبل الشروع في تأريخه. ولا يحسب أنه، هو المؤرخ أو المتصدي للتأريخ، بمنأى من واجب التسويغ. وليس هذا ادعاء ولا نرجسية، بل هو نزول على روح المسؤولية. ومثال ذلك صنيع ألساندرو ستيلا في كتابه «ثورة الشيومبي»، وهم عمال الصوف بفلورنسا، في 1378 (م). ففي الاسطر الاولى من الكتاب، يروي ستيلا مشاركته في انتفاضات عمالية بإيطاليا في سبعينات القرن العشرين. وهو لا يزعم أن هذه المشاركة امتياز يخوله الاحاطة بدلالة الاضطرابات في إيطاليا العصر الوسيط، ولكنه يقر بداعيه الى الرغبة في المعرفة. ويقول لقارئه: أقصد هذا الموضع لأنني هذا الشخص، وأدين لك أنت بهذا التوضيح لأنه خير للواحد أن يبسط آراءه علناً من التستر عليها وإخفائها وراء ظهره.

وهذا أكثر وضوحاً من قول فرنان بروديل في مطلع كتابه الكبير «المتوسط والعالم المتوسطي في زمن فيليب الثاني» (1946): «شغفي هو المتوسط، أنا القادم من الشمال شأن كثيرين غيري وبعد كثيرين». فبين 1946 واليوم، استوعب المؤرخون دروس العلوم الاجتماعية والآداب وربما درسَ التحليل النفسي. وهي توجب عليهم جلاء الموضع الذي يتناولون منه ما يؤرخون، ومن يؤرخون. وهذا شأن ستيفان أودوان – روزو في كتابه «أي تأريخ - رواية نسب بنوي (1914-2014)»، فهو يتعقب الاصول العائلية التي أفضت به الى احتراف التأريخ: وساقته على رغم منه الى «سبر الحرب الكبرى».

وغالباً ما يقال ويظن أن التأريخ يسعف في التعريف على النفس، وعلى تمكين الهوية وترسيخها. وأنا أخالف هذا الرأي، وأرى ان التأريخ يتيح رؤية ألفات (جمع أُلفة) مدهشة وغير متوقعة في البعيد، وذلك على نحو ما يتيح الانتباه الى غرابة غير مرئية في قرارة أنفســـنا. فيضطرب البصر ويتيه! أي ان التاريخ، على قول فرنسوا هارتوغ، يعمل على إضعاف بداهة الحاضر وامتحانها من طريق إبراز غموض الحاضر ومضمراته الكثيرة. فيعيد خلط أوراق الالفة والغرابة من غير كلل.

ولست أكتم إعجابي الشديد بـ»التأريخ المحيط» أو «الشامل» الذي كان فرنان بروديل وبيير شونو من رواده في فرنسا، ولا بجوبه أمداء الزمن في القارة الاوروآسيوية، بين بحر الشمال وبحر الصين. غير ان مثل هذا التناول لا يتفادى غالباً حمل رأينا الخاص على العمومية الكونية، وبناء جداريات عريضة على مثال التاريخ العام والواحد. ويُبعِد تأريخٌ من هذا الصنف من إظهار الحجة وإبدائها، ويبسط روايات عريضة وجسيمة تكاد تكون بلا سند، ويخلط على شاكلة المرقعة معارف تفتقر الى التجانس. فينقشع افق عريض لا يخالف الرواية المتعالية التي تقص خبر دخول العالم تحت قانون الغرب وحدِّه.

وعلى خلاف التأريخ المحيط والشامل، ينكب اليوم ما يسمّى «التأريخ المتشابك» (أو المتصل) على وصف أحوال جوار وصلة في وقت من الاوقات، وبموضع من المواضع، خلفت (الحال) وثائق كثيرة ويعتد بها. ومثال هذه الحال سيرة فاسكو دي غاما بقلم سانجاي سوبراهمانيام (2012)، وتوسلها بمصادر برتغالية وآسيوية، ثمرتها تأريخ اكثر إحاطة بموضوعه من التأريخ المعروف وأقل اطمئناناً الى أحكامه منه. ومثال آخر هو كتاب رومان برتران الاخير، «عذاب ضمير الفتوح المديد. مانيلا-مكسيكو- مدريد: قضية دييغو دي أفيلا 1577-1580»، (2015). ويميط الكتاب الستار عن تاريخ الفيليبين في القرن السادس عشر بواسطة دعوى تفتـــيش أقــــامها الــــوالي الاسباني. والتأريخ المتـــشابك يخالف على الدوام الرواية البطولية التي تزعمها عولمة هــــانئة وتدعو الى تصديقها. وما يستميلني في التأريخ المتـــشابك تناوله ما يؤرخ له على مقاس الناس، وانتباهه الى ما يرونه بأم العين، واستقباله ما يشمّونه من روائح العالم. ويحرص هذا المنهاج على الاقرار بتنوع المجتمعات واختلافها، ويحمل تواضعه على «خفض الصوت» أو التخلي عن الافكار العمومية والمجملة.

ويقوم منحى آخر في كتابة التاريخ على تخيل أدبي. ففي كتابي «ليوناردو (دافنتشي) ومكيافيلي» (2008، تذرعت بإقامة الاثنين، الرسام الكبير ومفكر السياسة، من 1502 الى 1504، بأوربينو أو فلورنسا. وتشاطر الاثنان ما يسميه مكيافيلي «قماشة عصر» واحدة.

ولكن كلاهما سكت عن لقاء جمعهما على الاغلب، وأحجم عن روايته. وكان في مستطاعي توظيف ستين ملاحظة جمعتها من الارشيف المعاصر، وإدراجها في حبكة تتمتع بكل مواصفات السرد التاريخي. ولكنني اخترت طريقاً آخر، فلم أتستر على هشاشة مادتي ومقالتي- وعوض ملء ما تركته الآثار المعاصرة معلقاً أو فاغراً عمدت الى الاحاطة بالحلقات الناقصة وإبراز رسوم دوائرها، والى تعيين مواضع الصمت وحدوده. وجلا هذا صورة عن نقائض التأريخ وتقصيره عن بلوغ مراميه وغاياته. ولا يحول هذا دون تمسكي بالتأريخ وتعريف نفسي مؤرخاً. فأنا لم أفعل إلا اختبار الحد الذي يتداعى كتاب التأريخ إذا هو تجاوزه أو تعداه.

وكتاب إيفان جابلونكو، «تاريخ أجدادي الذين لم أولد لهم» (2013)، يتنهج طريقاً واعداً الى كتابة التاريخ. وهو يقتفي الأثر ويتقصاه، ويخلص منه الى الحوادث وحلقاتها وسلسلتها، ويستوي عملاً أدبياً من غير أن يخالف معايير المنهاج التأريخي. فالادب، في هذا العمل، يعاصر التأريخ، على رغم تحفظ بعضهم عن التوسل بالانفعالات الى استدراج إقبال القارئ. فالتأريخ هو صنف متهافت من المعرفة، ومثالاته الكتابية قديمة وتقليدية. ويكنُّ جمهور القراء للتأريخ هوى عفوياً حري بنا ألا نخيبه، فإذا أبدى الناس اهتماماً بالغوليين (القوم الذي ينسب اليهم «الفرنسيون» وأقاموا في بعض بلاد الغول قروناً ق.م. وبعده)، أجبناهم أن الغول ليسوا من يحسبون. وإذا استهوتهم فرقة دينية غالية غلبت على بعض البلاد الفرنسية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر (م) قلنا لهم انها ليست إلا مركب مقالات. وهذا صحيح. ولكن التأريخ فكر نقدي، ولا يجوز أن يقنع بلغة التفكيك الجافة ويقتصر عليها. فإذا لم يتدارك الامر خسر دوره في لجم تصديق الروايات الجامعة والمضللة.

ولا يسعني القبول بتصدي المؤرخ وصوته الجهوري والواثق، على المنبر، الى التكهن بالمستقبل، بذريعة علمه بالماضي. ومقابل روايات المهووسين بالهوية يجب إعداد نقائض قوية ومتماسكة لهذه الروايات. وحري بالنقائض ان تجمع احترام معايير المنهاج الى احتساب الانفعالات وأثرها. فزمن النكوص العام ينزل الفكر الرجعي منزلة الصدارة، ويدعو المؤرخين الى طمأنة الجمهور الى ثبات هويتنا ودوامها واتصالها وانكفائها على نفسها. وعلينا القيام على محاولة سجن المجتمع في الحنين الى ماضٍ خرافي. فهوى الهوية يخالف فكرة التأريخ نفسها. والتأريخ هو علم التغير الاجتماعي الذي يروي كيف يمسك الرجال والنساء بمقاليد أقدارهم. وعلى خلاف مقالة دعاة الهوية القومية، ليس التاريخ مسيَّراً ولا مقدراً من قبل. ولاهوت ما لا راد له دعوة الى الرضوخ للكارثة القادمة، ونفي الاحتمالات الجائزة، ولابتكار اللحظة الحاضرة.