«نحو التحرر» لهربرت ماركوزه: الفكر والفن سبيلان للتقدم

«نحو التحرر» لهربرت ماركوزه: الفكر والفن سبيلان للتقدم

منذ زمن بعيد، نعرف أن الجزء الأكبر من الحركات الثورية التغييرية في العالم، إنما ينطلق أول ما ينطلق من الأفكار، وربما نقول في شكل أكثر دقة: من تضافر يحدث في لحظة تاريخية معينة وتحت ضغوط غالباً ما تكون اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو الثلاثة معاً، بين الظرف التاريخي الواقعي في بلد أو منطقة ما، وبين الأفكار التي تكون قبل ذلك وأحياناً بزمن طويل، قد تراكمت مستلهمة لدى حامليها الواقع نفسه في شتى ابعاده. نعرف ان هذا حدث مع الثورة الفرنسية (انطلاقاً من فولتير وروسو ومونتسكيو والموسوعيين جميعاً...)، كما حدث مع الثورة الروسية (حتى وإن تجلت الأفكار هنا في كتابات نظرية وحزبية اتت لتطور كتابات كارل ماركس وفردريك انغلز المستلهمة بدورها الثورة الفرنسية وفلاسفة عصر التنوير الألمان). ولكن بخاصة في القرن العشرين، حيث لا بد ان نتذكر كيف ان عدداً كبيراً من المؤرخين والباحثين يتوافقون على ان الثقافة والأفكار، بل حتى الفنون ايضاً في بعض الأحيان، كانت جميعاً في خلفية ثورات الشبيبة والطلاب التي اندلعت، وغالباً في غفلة عن نضالات «الثوريين المحترفين» من حزبيين وغيرهم، لتسير على هدي أفكار عدد كبير من كبار المفكرين والفلاسفة والكتّاب الذين غالبا ما كانوا - أو باتوا بعد خيبات تجارب حزبية مروا بها - مستقلين... ولعل اول الأسماء التي تخطر في البال هنا، ميشال فوكو ورولان بارت وكلود ليفي - ستراوس وحتى لوي آلثوسير من فرنسا. غير أن الاسم الذي كان الأكثر تداولاً في ذلك الحين، وكان من دون ريب يأتي قبل هذه الأسماء في هذا المجال، إنما كان اسماً يبدو أنه نُسي بعض الشيء في خضمّ الأحداث. كان اسم مفكر ألماني/أميركي بدا لزمن واحداً من المفكرين الأكثر جدية في ذلك السياق.


ولعل من أفضل ما قيل عن هذا المفكر الذي نتحدث عنه هنا هو أنه عندما كانت قلة من الناس تؤمن بأفكاره وترى بأنه على حق في نظرياته التي كان العالم الثوري في ذلك الحين ينظر اليها على انها مجرد أفكار هرطوقية، بلغت شهرته الآفاق وراحت كتبه تباع بعشرات ألوف النسخ وتترجم الى شتى اللغات. أما حين اثبتت حركة التاريخ بعد ذلك انه كان، بالفعل، على حق وان تشاؤميته الثورية كانت في محلها، نُسي تماماً، بحيث انه حين رحل عن عالمنا في العام 1979، كان قد استعاد مكانته العلمية كمجرد أستاذ جامعي هادئ رزين ينصرف الى دراساته وأفكاره، بعد ان كانت قد زالت عنه تلك الصورة التي كان هو نفسه يرى انها قد ألصقت بها إلصاقاً: صورة المفكر الثوري المسؤول الى حد ما عن انتفاضة الطلاب التي عمت أنحاء كثيرة من العالم في النصف الثاني من سنوات الستين.

> نتحدث هنا بالطبع عن هربرت ماركوزه، ذلك الفيلسوف وعالم الإجتماع الألماني الأصل الذي اضطره الاضطهاد النازي، حين وصل هتلر الى الحكم، الى مبارحة ألمانيا، بعد ان كان واحداً من كبار مفكري «مركز البحوث الاجتماعية» الذي عرف قبل الحرب العالمية الثانية باسم التيار الفكري الذي ارتبط به: «تيار مدرسة فرانكفورت» بزعامة ماكس هوركهايمر وإرنست بلوك. هناك ضمن اطار ذلك المعهد، ولدت النظرية النقدية، التي كانت، الى جانب مساعي انطونيو غرامشي في ايطاليا، أهم محاولة لإحداث تجديد في الفكر الماركسي، بعد ان كانت ممارسات الدولة «الماركسية» في الاتحاد السوفياتي والأخطاء المتراكمة للأحزاب الشيوعية الأوروبية على خطى ستالين ومعاونيه في الكرملين، بخاصة، قد كشفت عن اتساع الهوة بين نظرية الماركسية وتطبيقاتها. ومن هنا كانت محاولة مدرسة فرانكفورت، من طريق هوركهايمر وادورنو وماركوزه ورائد «الثورة الجنسية» فلهلم رايش، وهابرماس وعشرات غيرهم من الباحثين المعاصرين لاحقاً، أول محاولة جدية يقوم بها الفكر الماركسي النقدي لتجديد نفسه، أولاً انطلاقاً مما كان يسمى بـ «كتابات ماركس الشاب»، وبعد ذلك بالانطلاق من الفلسفة الهيغلية ومن مدارس التحليل النفسي الفرويدية سواء بسواء.

> وكان ماركوزه، المولود في برلين في العام 1898، من أبرز محاولي التجديد انطلاقاً من ثلاثي هيغل، ماركس وفرويد. أما هجرته من ألمانيا في العام 1933 فإنها لم تؤد الى قطع أبحاثه، بل ان وصوله الى الولايات المتحدة ومواصلته العمل ضمن اطار «معهد البحث الاجتماعي» الذي أسسه هناك ماكس هوركهايمر، واحتكاكه عن قرب بالمجتمع الرأسمالي الذي كان تحليله هو شغله الشاغل، كل هذا مكّنه من أن يعزز أفكاره، وان يجذر من منظوره الثوري، بحيث توصل الى وضع أول نظرية متكاملة وذات صدقية حول أو آليات المجتمعات الرأسمالية في عصور ما بعد الصناعة. وعلى رغم تشاؤمية نظرته التي عبّر عنها بخاصة في كتابه الأشهر «الانسان ذو البعد الواحد»، فإن أفكاره اعتُبرت القاعدة النظرية لحركة الطلاب الثورية والتغييرية هو الذي كانت المناضلة السوداء الأميركية آنجيلا دايفيز واحدة من أقرب طلابه اليه، كما عرف وحلّل عن قرب ثورة «الفهود السود» وكتابات زعمائهم. هذا من دون أن ننسى ان كتابه «الجنس والحضارة» (1955) اعتبر على الدوام نوعاً من اعادة اعتبار ماركسية لنظريات فرويد (وكان هذا الكتاب، إضافة الى «الإنسان ذو البعد الواحد» من أول ما تُرجم من كتابات ماكوزه الى العربية).

> وإذ نتوقف هنا عند كتاب تال لماركوزه هو «نحو التحرر» كتبه لاحقاً على ضوء انهيار حركات الشبيبة التي سادت العالم في الستينات نجده يؤكد في هذا الكتاب، ما كان دنا منه في كتبه السابقة من ان الثورة الطبقية التي تقودها الطبقة العاملة قد كفت عن ان تكون ممكنة، بعد ان تمكنت البلدان الصناعية ذات الكثافة العمالية الواعدة، من ان تحيّد الطبقة العاملة من طريق أجهزة الدولة وإعلامها الخاضع للسيطرة الدولتية أو الرأسمالية، كما من طريق الوهن التدريجي الذي أصاب عملية الانخراط في المنظمات الجماهيرية مثل الأحزاب والنقابات. هذا الكلام تبدى هرطوقياً في ذلك الحين، أي في وقت كانت فيه الأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية تعتبر نفسها قوية وغير قابلة لأي تحدّ. أما ماركوزه فكان يرى انها تعيش نهايتها. فمن يقوم بالثورة اذاً؟ الهامشيون حسب ماركوزه: الطلاب، النساء، الأقليات، الملوّنون والفنانون والمفكرون والعاطلون من العمل. ولكن لما كان على هؤلاء ان يجابهوا أجهزة الدولة القمعية القوية من ناحية، والطبقة العاملة وأحزابها ونقاباتها من ناحية ثانية، - وحتى الغالبيات الصامتة التي حتى وإن كانت حقوقها مهدورة، تفضل السكوت والإنتظار بدلاً من القيام بأي تحرك يحمل من المخاطر ما يحمل - بات من غير الممكن لأي تحرك ثوري ان ينتصر، انما من دون ان يعني ذلك ان التحرك لن يعطى فرصاً لأن يقوم. والمهم، بالنسبة الى ماركوزه، كان ان يقوم التحرك من دون ان يُشترط ذلك بانتصاره فقيامه نفسه يعني انتصاره وبخاصة إن واكبته نهضة علمية وفنية تستفيد من الديموقراطية المطلقة لإعلام يمكنه بقليل من الجهد أن يفلت من براثن القوى الضاغطة في المجتمع. واضح هنا ان ما يقترحه ماركوزه إنما هو تحرر من طريق الفكر والفن لا أقل ولا أكثر. ولقد أتت أحداث النصف الثاني من الستينات (حركات الطلاب، انتفاضة السود في أميركا، وتفاقم الأزمة العضوية للمجتمعات الصناعية بالتواكب مع انهيار الحركات النقابية وفشل الأحزاب الشيوعية في خوض اللعبة الانتخابية ديموقراطياً)، أتت لتؤكد ما كان ماركوزه قد استنتجه.

> بدءاً من العام 1965 أي في خضم التحركات الشبابية الطالبية، أصبح ماركوزه استاذاً في جامعة كاليفورنيا، وهو واصل، بعد ان خبا بريقه الفكري إثر ذلك بعض الشيء، عمله ومضى يصدر كتبه طوال السبعينات، وكان من أبرز ما أصدره «نحو التحرر» و «البعد الجمالي، نحو نقد للجماليات الماركسية». أما كتابه «الماركسية السوفياتية، تحليل نقدي» الذي كان أصدره في العام 1958، فلم يعد اليه الاعتبار الا بعد سنوات عدة من رحيل ماركوزه، أي حين انفرط عقد المنظومة الاشتراكية، وكان ذلك الكتاب واحداً من أبرز الكتب التي اكتشف الباحثون انها فسّرت ذلك الانفراط في شكل مسبق.