«ما هو الفن؟» لتولستوي: الجيّد ذو وظيفة والمحايد شرير

«ما هو الفن؟» لتولستوي: الجيّد ذو وظيفة والمحايد شرير

هل يمكن أن تقاس قيمة الغذاء الذي نتناوله بالاستناد إلى ما يبعثه لدينا من متعة أو لذة، أم بالاستناد إلى فائدته لأجسامنا وحياتها؟ من هذا السؤال، تقريباً، ينطلق الكاتب الروسي الكبير ليون تولستوي، في مجال بحثه عن ماهية الفن، في كتابه الذي يكاد يكون أقل كتبه شهرة «ما هو الفن؟». هذا الكتاب وضعه تولستوي في العام 1896، في وقت كان العالم عند تلك الآونة الانعطافية في تاريخ البشرية، يشهد العديد من المتغيرات، التي كانت على درجة من التسارع لم يعد من الممكن معها للفنان بوصفه ابن زمنه، أن يقف متأملاً، راكضاً وراء مفاهيم مثل اللذة والمتعة والجمال واللهو واللعب... وما إلى ذلك من أفكار كانت رُبطت بالفن.

 


> بالنسبة إلى تولستوي، كل هذا لم يعد ممكناً في الزمن الذي عاش وكتب فيه، ولا سيما في تلك السنوات الأخيرة من حياته، التي كان العالم يتبدل فيها تبعاً للمتواليات الهندسية لا للمتواليات الحسابية، وفق مؤرخي ذلك الزمن. وكاتب من طينة تولستوي، أي ذلك المبدع والمفكر العجوز الذي كان مضى زمن طويل منذ وضع أعماله الكبيرة مثل «الحرب والسلام» و «آنا كارينينا» وغيرها من إبداعات شامخة تنتمي كلياً إلى الأدب، بحيث سيكون من الصعب جداً، بل حتى من غير المنطقي، على رغم كل الأبعاد الاجتماعية التي تحملها، أن نطبق عليها تلك النظريات الاجتماعية و «الوظائفية» التي عالج تولستوي الفن بها في خريف عمره، ففي ذلك الحين كان لا يمكن مثلَ هذا الكاتب، وعلى ضوء أحداث زمنه، أن يوافق على أي حيادية تعزى إلى الفن أو أي مطالبة بأن ينزوي الفن في برجه العاجي. ومن هنا، نراه في كتابه الذي نتحدث عنه هنا، يكثر إيراد فقرات ذات دلالة، مثل التي ننقلها هنا عن ترجمة للدكتورة أميرة حلمي مطر: «عندما نقول إن عملاً فنياً ما جيد ولكنه غير مفهوم لأغلبية الناس، فإنما يشبه هذا قولنا إن نوعاً من الطعام شهي جداً لكن أكثرية الناس لا يمكنها أن تتذوقه. إن العمل الفني الأصيل لا يحتاج إلى تربية عقلية، على نحو ما ينبغي أن يتعلمه الإنسان من الهندسة قبل أن يفهم حساب المثلثات، وإنما يمكن الفلاح البسيط أن يفهم العمل الفني الجيد وقد لا يفهمه المثقف المنحرف عن الدين. وفضلاً عن ذلك، لا يمكن أن يكون العمل الفني موضع تفسير، لأنه لو كان من الممكن تفسيره باللغة العادية لعبّر عنه الفنان باللغة والكلمات. العمل الفني الأصيل يلغي الفواصل بين الفنان والمتذوق. في التقارب والاتصال تكون قوة الفن».

> إذاً، بتأكيدات مثل هذه تمكن مجادلتها اليوم بكل بساطة، حمل تولستوي -وفق ما يفيدنا الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه القيّم «مشكلة الفن»- على المذاهب الجمالية التي سبقته، ولكي يتمكن صاحب «الحرب والسلام» من هذا ويجعل أفكاره عملية و «في متناول الناس»، بدأ دراسته النقدية هذه باستعراض تاريخ المذاهب الجمالية، قبل أن يعرّج على موضوع الفن نفسه، مقرراً أن «الفلاسفة دأبوا على تعريف النشاط الفني بالرجوع إلى مفاهيم الجمال واللذة (...)، في حين أن المهم هو معرفة الدور الذي يلعبه الفن في حياة الإنسان أو الإنسانية بصفة عامة». وهنا يقول لنا تولستوي إننا «إذا أردنا أن نعرّف الفن تعريفاً صحيحاً، وجب علينا أولاً وقبل كل شيء، أن نكف عن اعتباره مصدر لذة، لكي ننظر إليه بصفته مظهراً من مظاهر الحياة البشرية. ولن نجد أدنى صعوبة عندئذ في أن نتحقق من أن الفن هو إحدى وسائل التواصل بين الناس». وهنا يستطرد تولستوي قائلاً: «كما أن الإنسان ينقل أفكاره إلى الآخرين من طريق الكلام، فإنه ينقل إلى الآخرين عواطفه من طريق الفن». ومعنى هذا -في رأي تولستوي- أن الفن لا يخرج عن كونه أداة تواصل بين الأفراد، يتحقق من طريقها «ضرب من الاتحاد العاطفي أو التناغم الوجداني بينهم».

> إزاء أفكار مثل هذه، لن يدهشنا هنا أن نرى كيف أن هذا الكتاب أحدث دوياً كبيراً في زمنه، ولا سيما في أوساط الأدباء، حيث إن تولستوي، وبكل بساطة، أخبر أكثرهم أنهم يعملون عبثاً، «فليس كل ما يزعمون من أعمال فنية متصلاً بالفن كما عرّفه هو، لا من قريب ولا من بعيد». ومن أجل الوصول إلى هذه التعريفات، يقسم تولستوي الفن على مدى تاريخه ثلاثة أنواع: الفن الطيب، الفن الخبيث، والفن الباطل -أو الزائف-». وبما أن «قيمة الفن لا تقاس بمقياس مجرد، كنظريات علم الجمال مثلاً، بل بصلته بالناس والمبادئ السامية التي لا بد منها لحياتهم، لا يمكن تجريد الفن من مفهوم الفضيلة». بالنسبة إلى تولستوي «الفن الحقيقي هو أن تنقل إلى غيرك ما تحسّ به في نفسك وتأثرت به تأثراً عميقاً، والفرق بينه وبين الزائف من الفن، أن يحس الفنان حقاً في أطواء نفسه ما يريد أن ينقله إلى غيره، وأن يبلغ من قوة الأداء أن يؤثر في غيره بحيث يجعله شريكاً له في إحساسه (...) وإنما تتجلى قوة الفنان حقاً في كمال هذا النقل، وكلما كثر عدد من يشاركونه احساسه ذاته كان إلى ذلك الكمال أقرب».

> فماذا عن الفن في الزمن المعاصر -لكاتبنا-؟ «لقد بعد الفن في المدينة الحديثة والثقافة الحديثة عن ذلك الشعور الحكيم الذي أخذ به جميع الأديان (...) والذي اعتنقه أساطين الفكر في العالم، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو. وفقد الفن بذلك وظيفته في السمو بالنفوس والعقول وأصبح ملهاة أشبه بلعبة لاعب، ولئن قال قائل إن الفن في الأمم البدائية ضرب من اللعب، يُرَدّ على ذلك بأنه إن وصل إلى ذلك الوضع في الأمم المتمدنة كان دليلاً على انحطاطها إلى مستوى البدائيين. ويستطرد تولستوي هنا ليخبرنا أنه قد أصبح في أوروبا منذ النهضة فنان: فن للعامة وفن للخاصة. و «بات فن الخاصة قاصراً على فئة معينة، وقد حيل بالضرورة بينه وبين العامة، لما يتطلبه من نفقات لا تطيقها العامة، وما زال يضيق ويبعد عن الروح العالمية حتى لتَحسُن تسميتُه بالفن الإقليمي، ثم ازداد ضيقاً فسماه أصحابه بالرمزية، وأحرى به أن يسمى الببغاوية». وبالنسبة إلى تولستوي، يقوم محك هدف العمل الفني على مدى انتشاره من طريق العدوى. وكلما كانت هذه العدوى أقوى كان الفن أصدق، بغض النظر عن مضمونه أو قيمة العواطف التي ينقلها إلينا. ودرجة العدوى الفنية إنما تتوقف لديه على شروط ثلاثة: أولها الأصالة، أو الفردية، أو الجدة في العواطف المعبر عنها. ثانيها درجة الوضوح في التعبير عن هذه العواطف. وثالثها إخلاص الفنان أو شدة العواطف التي يعبّر عنها. أما الفن الزائف، فهو «ذلك الذي لا ينبعث من شعور حقيقي في النفس، وإنما هو وليد التقليد والرغبة في كسب المال والشهرة أو تملق عواطف الجمهور. وهو يبدأ من حيث ينتهي الإلهام، وقوامه الكذب والطلاء الخادع». و «حسبك أن صاحبه يحاول أن يؤثر في النفوس ونفسه فارغة، ويزعم انه ينقل اليهم إحساسه وما يحس شيئاً...».

> عندما وضع ليون تولستوي (1828- 1910) كتابه، كان في السبعين من عمره، وكان أنجز حينها كتابة العدد الأكبر من أعماله الكبيرة، منصرفا إلى المشاكسة (السياسية والاجتماعية) وإلى التأمل الروحي والفلسفي. ومن هنا، لم يكن غريباً أن يسعى في سنواته الأخيرة تلك إلى رسم ما يشبه الوصية الفنية، التي من الصعب طبعاً القول إنها تتطابق في بعدها الجمالي مع الأفكار الكامنة في خلفية معظم أعماله. غير أنها تتطابق مع نظراته الفلسفية في الزمن الذي كتبها ودعواته الاجتماعية، بل حتى سعيه للوصول إلى ما كان يعتبره ديناً جديداً يستند إلى مبادئ فلسفية تجعل مصلحة الإنسان وأبعاد حياته الروحية مدارَ اهتمامه.