«الممتثل» لبرناردو برتولوتشي: دراسة سيكولوجية لشخصية الفاشي

«الممتثل» لبرناردو برتولوتشي: دراسة سيكولوجية لشخصية الفاشي

 من ناحية مبدئية، ليس فيلم «الممتثل» فيلم تجسس ولا هو فيلم بوليسي وكذلك ليس فيلماً عاطفياً وإن كان فيه قدر من كل نوع من هذه الأنواع. بل هو واحد من تلك الأفلام الذكية والعميقة التي اعتاد المخرجون الايطاليون الكبار تحقيقها لتخدمهم في فضح الفاشية التي هيمنت على بلادهم عشرات السنين. غير أن هذا الفيلم المأخوذ عن رواية لألبرتو مورافيا، وحققه للسينما برناردو برتولوتشي، يرسم لنا في الوقت نفسه صورة لتحول مثقف ضائع منذ طفولته، الى عميل سري ينفذ أوامر رؤسائه من دون أي منطق أو تفكير، كما تفعل الخراف في قطعانها مؤتمرة بأمر راعيها الذي يتحكم بها كما يريد. ومن هنا اعتبر الفيلم دائماً صورة سيكولوجية لذهنية الفاشي وتكوّن العميل، ورسماً تاريخياً لجزء من الأسباب التي تجعل إنساناً عادياً، نموذجاً فاشياً. ومن هنا أهمية الفيلم في تاريخ هذا النوع من السينما... بل ربما أهميته أيضاً لناحية كونه يحلل في شكل علمي شخصية الفاشي.

 


> عند بداية الفيلم، نجدنا ليس في أول الأحداث التي يرويها، بل في بداية نهايتها: ففي هذا القسم، نرى مارتشيلو كليريتشي وهو يجهز نفسه الى رحلة يُطلب منه خلالها ان يقوم بقتل استاذه في الكلية البروفسور لوكا كوادري. وللقيام بهذه المهمة التي لن نفهم مسبباتها الا بعد حين، نجدنا نحن المتفرجين متنقلين في باريس، بين مشاهد من الحياة اليومية، ومشاهد تجوال مارتشيلو وزوجته الباريسية، ثم الى داخل سيارة يقودها شخص لن يفوتنا ان نلاحظ في سماته وتعابير وجهه، مدى دمويته والى جانبه مارتشيلو... ومن الواضح هنا ان هذه السيارة وراكبيها، تطارد البروفسور وزوجته في سيارتهما. وخلال تلك المطاردة نشاهد مجموعة كبيرة من فصول ماضية حدث بعضها قبل عقود وبعضها قبل مطاردة السيارة بفترة وجيزة. والحقيقة ان هذه المشاهد الاسترجاعية تبدو من التعقيد والتراكم الزمني بحيث أن كثراً من مشاهدي الفيلم أعلنوا انهم لم يفهموا شيئاً عند مشاهدتهم الفيلم للمرة الأولى. فما هو هذا الشيء الذي لم يبد لهم واضحاً؟ انه بكل بساطة، حكاية مارتشلو نفسه: مرة نراه يتناقش مع صديق له أعمى حول مشروع للاقتران بفتاة يحبها. ومرة أخرى نراه يحاول الانضمام الى الحزب الفاشي الايطالي. وفي مرة ثالثة نراه في تراجع زمني، في شرخ شبابه يزور امه مدمنة المخدرات في الفيلا العريقة التي تقيم فيها كابنة لطبقة اجتماعية عليا منهارة. ثم بعد ذلك نجده يزور أباه في مأوى للمجانين. ان هذه المشاهد جميعاً تقول لنا ما الذي كانت تبدو عليه حياة مارتشلو بين سنوات مراهقته وزمن الأحداث الحاضرة. وبالتالي فهذه المشاهد سوف تقودنا الى طفولة هذا الشخص خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كانت أسرته لا تزال ثرية ومترفعة، لا تنفك تبدي حرصها على سلوك الابن فتسعى دائماً الى إبعاده عن مجتمعات الآخرين خوفاً عليه. غير ان العائلة كان لديها في الدارة المنيفة سائق أرعن يدعى لينو، سرعان ما يستميل الفتى ويجره الى غرفته بدعوى انه سيريه مسدساً. وحين يحاول لينو الاعتداء على الصبي يلتقط هذا، المسدس ويطلق النار على السائق الذي يسقط مضرجاً بدمائه، بحيث نعتقد – ويعتقد مارتشيلو معنا – انه قد مات. ثم في مشهد لاحق نرى مارتشيلو، الذي يبدو واضحاً أن هذه الجريمة تعذب ضميره، يتناقش مع خطيبته حول ضرورة الاعتراف بالجريمة كي يستطيعا الاقتران براحة ضمير. يعترف مارتشيلو، اذاً، امام الكاهن، لكن ذنوبه تبدو ما أن يبدأ سلسلة الاعترافات أكثر كثيراً من مجرد قتله لينو. في البداية يقلق الكاهن ويحاول إشعار مارتشيلو بخطورة ذنوبه المقترفة ماضياً وحاضراً، لكنه ما إن يعرف ان مارتشيلو انضم الى البوليس السري الفاشي حتى يهدأ ويعطيه الغفران بكل طيبة خاطر!

> هكذا، إذاً، بعد أن بين لنا الفيلم، العلاقة بين الكنيسة والفاشية والجنس – المثلي خاصة –، صار يمكنه أن يتابع أحداثه، فنعود الى الزمن الحاضر، حيث يكَلّف مارتشيلو وقد صار متزوجاً، بأن يساهم في باريس فـي مؤامـرة أعدت لاغتـيال أستاذه السابق الذي كان يعتبر في ذلك الحين من أخطر معارضي الفاشية الذين يحاربونها انطلاقاً من العاصمة الفرنسية. وهكذا يأخذ مارتشيلو زوجته ويتوجهان معاً الى باريس. وخلال تلك الرحلة نستعــرض حياة الزوجين وعلاقتهما، حتى اللحظة التي يلتقيـــان فيها البروفسور كوادري وزوجته الحسناء. وكـوادري طبعاً لن يثور لديه اي شك يتعلق بما يخطط له مارتشيلو. بالنسبة اليه هو لقاء عائلي مع تلميذ له قديم. وإذ يمضي الثنائيان أوقاتاً مرحة وودية معاً، يكون العملاء الفاشيون، ودائماً بالتعاون مع مارتشيلو، قد بدأوا بالعمل لتنفيذ الخطـــة التي فحـــواها استدراج كوادري الى غابة خارج باريس، للتمكن من قتله هناك بعيداً من الأعيـــن. بيد أن الذي يحدث هنا هو انه خلال ايام الرفقة بين كوادري وزوجته من ناحية، ومارتشيلو وزوجته من ناحية أخرى، يغرم مارتشيلو بزوجة أستاذه التي في الـــوقـــت نفسه تستميل زوجـــة مارتشيـــلو لتمارس معها علاقة شاذة، فيمـــا يبقـى البروفسور في منأى من معرفة أي شيء عن هذا كله. أما المؤامرة فتواصل طريقها. ويتـــمكن مارتشيلو بالفعل من استدراج كوادري الى حيـــث سوف يقتل، لكنه في الوقت نفسه يرجو آنا، زوجــــة البروفسور، من دون أن يوضح لها السبب، ألا ترافق زوجها في تلك الجولة بالسيارة في الغابة.

> لكن آنا لا تصغي الى ما طلبه منها مارتشيلو، بل ترافق كوادري. وهناك وسط غابة مهجورة، وإذ تتوقف سيارة البروفسور لبرهة، ينزل العملاء الفاشيون من سياراتهم ويطلقون الرصاص بغزارة على البروفسور. أما آنا، فإنها حين تدرك ما الذي يحدث، تلتفت لتشاهد مارتشيلو في سيارته، فتهرع اليه طالبة الحماية خابطة على زجاج السيارة، لكنه يتجاهلها تماماً، حتى يصل الفاشيون ويردونها قتيلة.

> وإذاً يتوقف الفيلم بهذه الأحداث القاتلة عند هذا المشهد، ينتقل بنا الى زمن لاحق، وبالتحديد الى العام الذي انتهى فيه الديكتاتور موسوليني وحزبه الفاشي: الآن صار مارتشيلو رب عائلة له طفل صغير ويعيش حياة شديدة التقليدية. وذات لحظة يتصل به صديقه القديم الأعمى الذي كان فاشياً في السابق، طالباً منه ان يلتقيه في الشارع حيث تدور تظاهرات عنيفة تعبر عن فرح الشعب الايطالي بالتخلص من الفاشية. وإذ يلتقيان ويبدأ بينهما نقاش هادئ حول الأوضاع الراهنة، يشاهد مارتشيلو شخصين يتجادلان. وسرعان ما يتعرف في واحدهما على لينو، السائق الذي كان قد خيل اليه انه قتله في الماضي. على الفور ينتفض مارتشيلو، إذ رأى الناس يبحثون عن الفاشيين للثأر منهم، فيشير الى لينو صارخاً بملء فمه ان هذا الرجل فاشي ولوطي وانه قد اشترك في اغتيال البروفسور كوادري وزوجته... فلا يكون من جميع الناس إلا أن يهجموا على لينو ويضربوه في الوقت الذي يجد مارتشيلو نفسه فيه، وفي شكل غير واعٍ يشي كذلك بصديقه الأعمى ايتالو... فيقتاده المتظاهرون بدوره، فيما يواصل مارتشيلو طريقه وكأن شيئاً لم يكن.

> منذ عرض هذا الفيلم، حقق شعبية كبيرة، وأعاد الى الحياة كذلك رواية البرتو مورافيا التي كانت منسية بعض الشيء. أما بالنسبة الى مخرجه برتولوتشي، فإنه حقق له مكانة اضافية كبيرة بين كبار معلمي السينما الايطالية، علماً أن الفيلم من بطولة جان – لوي ترنتينيان والفاتنة دومنيك ساندا. ومن الطبيعي ان تضيف الى هذا كله ان فيلم «الممتثل» حين عرض عام 1970، للمرة الأولى، أعاد بسرعة فتح ملف الفاشية الايطالية – والفاشية بشكل عام – لحالة مرضية ترتبط بالجنس والدين، أكثر منها حالة سياسية. أما برناردو برتولوتشي الذي يدنو الآن من ثمانيناته ويعتبر أحد المعلمين الكبار في السينما الإيطالية، فإنه واصل بعد النجاح النقدي والجماهري الذي حققه «الممتثل»، ليحقق بعض الأفلام التي تعتبر من روائع تاريخ السينما، ومن بينها «القرن العشرون» و«الإمبراطور الأخير» و«السماء الواقية» و«أنا وأنت».