«السلطة والمجد» لغراهام غرين: البحث عن جوهر الروح

«السلطة والمجد» لغراهام غرين: البحث عن جوهر الروح

«هذه الرواية هي الوحيدة من بين أعمالي التي كتبتها انطلاقاً من أطروحة معينة». بهذه العبارة سيتحدث الكاتب الانكليزي غراهام غرين عن واحدة من أشهر رواياته وأقواها، «السلطة والمجد»، التي أنجز كتابتها في العام 1938، خلال وإثر زيارة قام بها الى المكسيك في الوقت نفسه، تقريباً، الذي كتب فيه رواية أخرى له، اشتهرت كثيراً لاحقاً، هي «العميل السري».

 


> كتب غراهام غرين رواية «السلطة والمجد» في الواقع، انطلاقاً من تحقيق كان يقوم به من حول اضطهاد الدين في المكسيك، في ذلك الزمن، باسم الثورة. وكان قد سمع بذلك الاضطهاد عبر حكايات كانت تنقل اليه، مضخمة بعض الشيء - كما سيقرّ لاحقاً - ما أشعل غضبه وفضوله في الوقت نفسه، وتوجه الى المكسيك حيث أقام فترة من الزمن، استمع خلالها الى حكايات اضطهاد جديدة، كما تعرّف خلالها الى أشخاص كثر من الواضح انه استعار سماتهم وحواراتهم ليستخدمها في رسم شخصيات هذه الرواية التي حُوّلت فيلماً وترجمت الى لغات عدة، ومع هذا، فإن الكنيسة الكاثوليكية، التي كان غرين ينتمي اليها بعدما تخلى عن بروتستانتيته قبل ذلك بسنوات عدة، أبدت انزعاجها من الرواية، من دون أن تصل الى حد إعلان ذلك والمطالبة بمنعها. بالنسبة الى الكنيسة البابوية، تكمن المشكلة مع «السلطة والمجد» في انها مليئة بالالتباس والتناقض، حتى وان كانت - في نهاية الأمر - تحمل رؤية كاثوليكية واضحة.

> في اطارها الخارجي، قد تبدو هذه الرواية لنا للوهلة الأولى، على شكل رواية مغامرات، أو حتى على شكل رواية سياسية تصف ثورة تندلع في بلد صغير وبعيد، لا تسميه الرواية ولكن يمكن على الفور تخمين شبهه بالمكسيك. المهم ان الرواية، خارج اطار وصفها للثورة المندلعة، تحاول ان تقول شيئاًً آخر تماماً: تحاول ان ترسم في خلفية الأحداث صورة ما - غامضة الى حد كبير - للاستلاب الذي تزرعه العباءة الروحية في أوساط الشعب. ولعل واحداً من مشاهد الرواية يبدو هنا قادراً على رسم ذلك البعد: في ذلك المشهد لدينا القسيس، بطل الرواية، المؤمن والثمل دائماً - بحسب وصف غرين له - وهذا القسيس يواصل على الدوام هربه من مطاردة رجال الشرطة له... وهو بسبب وضعه هذا، يجد نفسه على الدوام في حاجة الى زجاجة خمر يساعده احتساؤها على خدمة القداس في الكنيسة. وهو هذه المرة اذ يتوصل، في نهاية الأمر، الى الحصول على الزجاجة يصل ممثلو القانون اليه ويكون أول ما يفعلونه ان يريقوا ما في الزجاجة على الأرض أمام ناظريه.

> من الواضح ان هذا المشهد يحمل، في الرواية على الأقل، قدراً كبيراً من الغموض، وعلى الأقل بالنسبة الى الرسالة التي أراد غرين قولها. ويرتبط هذا، بالتأكيد، في ان غراهام غرين اعتاد قبل «السلطة والمجد» وبعدها أيضاً، أن يتفادى الوقوف، في أي عمل من أعماله، الى جانب هذه الشخصية أو تلك، على حساب غيرها من الشخصيات، حتى ولو كانت الأولى تمثل الخير المطلق والثانية الشر المطلق. اعتاد غرين أمام أعماله، أن يرتبك ويعيش حيرة كبرى في اللحظات الحاسمة. وذلك بالتحديد لأن هذا الكاتب لم يعرف أبداً كيف يحسم أمره بين الخير والشر، بين الصواب والخطأ، كما كانت كاثوليكيته تتطلب منه. ولعل هذا ما دفع زميله انطوني بارغس (صاحب رواية «البرتقال الآلي» وعمل مثله لفترة طويلة مراسلاً صحافياً وعميلاً لاستخبارات الخارجية البريطانية) الى ان «يسحب منه هويته الكاثوليكية» معلناً ان «غرين هو الأقل كاثوليكية بين الكاثوليكيين» بل هو أقرب الى ان يكون منتمياً الى «الجانسينيين، أولئك الكاثوليك الذين يجدون أنفسهم أقرب الى كالفن البروتستانتي منهم الى اليسوعيين». والحقيقة ان من يقرأ «السلطة والمجد» يمكنه، وبكل يسر، ان يوافق بارغس على اقتراحه.

> ومع هذا كله تعتبر رواية «السلطة والمجد» التي نشرت للمرة الأولى في العام 1940 ونالت في العام نفسه جائزة هاوثوردن الرفيعة، قمة أعمال مؤلفها ذات البعد الكاثوليكي، علماً أن الكاتب كان تخلى في هذه الرواية وللمرة الأولى عن الحبكات البوليسية والتجسسية التي كانت محور أعماله السابقة. ذلك ان غرين انما أراد من هذه الرواية أن تعبر عما سمعه من حكايات فساد القساوسة، الحكايات التي كان انتشارها يساعد الحكومة الثورية في المكسيك على ان تواصل اضطهادها رجال الدين تحت ذريعة فسادهم تلك. كما ان غرين أراد في الوقت نفسه أن يعبر عن عمق الإيمان الروحي للفلاحين الذين شاهد بأم عينه مشاركتهم سراً في القداسات، بكل ايمان وخشوع، على رغم اضطهاد السلطات. أما شخصية القسيس الذي جعل منه بطل الرواية فإنه استوحاها من حكاية رويت له عن قسيس كان يعمد طفلة فإذا به ينكشف ثملاً متأرجحاً. ان هذا الولع بالخمرة ينقص دون شك من قيمة ذلك القسيس، لكنه لا ينقص من حمياه الدينية، ومن رغبته العارمة في أداء واجباته اليومية... واصلاً حتى الاستشهاد في سبيلها... وغرين، لكي يعطي هذه الشخصية المدهشة كل أبعادها، وضع في مقابلها شخصيات عدة أخرى تتفاوت قيمةً وأهميةً في الرواية. ومن هذه الشخصيات الأب خوسيه، وهو قسيس قبل مبدأ الزواج، كما قبل ان يهان في كل لحظة. ومنها أيضاً شخصية «الغرنغو» وهو سارق مصارف وقاتل وقاطع طرقات لا يؤمن إلا بالمادة... وسندرك بسرعة ان القاسم المشترك بين القسيس، بطل الرواية و «الغرنغو» هو ان الاثنين يعيشان أيامهما ولياليهما مطاردَين من السلطة الحاكمة، والممثلة هنا بالملازم الذي تصفه لنا الرواية انساناً طيباً مثالياً على رغم غضبه الدائم، هو الذي يتمكن في نهاية الأمر من أن يلقي القبض على القسيس، حين يكون هذا قد عاد (بعد ان وصل الى مكان آمن يمكنه فيه - أخيراً - ان يعيش حياته بهدوء ودعة) عابراً الحدود لمجرد ان يعايش «الغرنغو» دينياً في ساعاته الأخيرة. لقد كانت تلك العودة، التي ستؤدي الى استشهاد القسيس، ضرورية لإيفاء الواجب الديني حقه على رغم كل شيء... وخصوصاً: على رغم ان القسيس كان يعرف أنها ستؤدي الى نهايته، كما يشهد على ذلك طبيب الأسنان تنك، الذي كان شاهداً على ذلك كله. لقد رضي القسيس السكير بالتضحية النهائية، لأنه - كاثوليكياً - لم يكن لديه أي خيار آخر... ومن المؤكد هنا ان الأطروحة التي حاول ان يوصلها غراهام غرين هنا هي ان الكنيسة - أي الحياة الروحية للشعب - ستعيش على رغم كل ضروب الاضطهاد... وهذا ما يؤكَّد لنا، على أي حال، في الصفحات الأخيرة من الرواية.

> حين كتب غراهام غرين (1904 - 1991) هذه الرواية كان في الرابعة والثلاثين من عمره، وكانت سنوات عشر قد مضت عليه منذ اعتناقه الكاثوليكية. وكان قد عرف على نطاق واسع بفضل روايات عدة نشرها تباعاً، منذ بداية اهتمامه بالكتابة، الصحافية والروائية، وهو، بعد في العشرين من عمره... بالتزامن مع الشكوك التي راحت تتلاعب به من حول الهوية الروحية. ولقد أمضى غرين العقود التالية من حياته متأرجحاً وسط كل تلك الشكوك، التي يمكننا ان نراها اليوم مبثوثة في رواياته، سواء أكانت روايات مغامرات، أو جاسوسية، أو عاطفية... كما في معظم تحقيقاته الصحافية الكبرى، وفي كتابي سيرة ذاتية وضعهما على الأقل هما «دروب الهرب» و «نوع من الحياة». ومن أبرز روايات غرين «نهاية علاقة» و «موسم الأمطار» و «صخرة برايتون» و «انكلترا صنعتني» و «جوهر الموضوع» و «نهاية علاقة» و «عميلنا في هافانا» و «العامل الانساني». ولقد حول القسم الأكبر من روايات غرين الى أفلام سينمائية، ناهيك بأنه كتب مباشرة للسينما أعمالاً من بينها «الرجل الثالث» التي أخرجها كارول ريد ومثلها اورسون ويلز، وعاد غرين بعد ذلك وصاغها في رواية.