«الرجل ذو الكاميرا» لفرتوف: الصورة للتلصّص على هدير الحياة المتدفق

«الرجل ذو الكاميرا» لفرتوف: الصورة للتلصّص على هدير الحياة المتدفق

تماماً كما أن الشعراء بدأوا عند نهاية القرن التاسع عشر، يعبرون عن العلاقة المعقدة بين الشاعر ولغته، ويبحثون للشكل الشعري عن علاقة بالمضمون، أكثر تركيبية وحداثة، كان لا بد للسينما من أن تسير يوماً على الطريق نفسه. فالسينما التي كانت خلال عقود حياتها الثلاثة الأولى تبدو وكأنها تلهث لاحقة بالأدب أو بالمسرح، والتي كان ايزنشتاين الروسي وغريفيت الأميركي قد حاولا التجديد فيها على صعيد تعبير الشكل عن المضمون، في أساليب تعطي للشكل شيئاً من الاستقلالية، هذه السينما كان لا بد لها ان تعثر أخيراً على شاعريتها الحقيقية. قبل العام 1929، ربما تكون قد عثرت على طرف الخيط، لا سيما في الأفلام التسجيلية التي راحت تلتقط الواقع، بانتظاميته أحياناً وبفوضاه في أحيان أخرى، ولكن كان عليها ان تنتظر حلول العام 1929، قبل ان تنتهج تلك الشاعرية، محققة ذلك الفيلم الذي سيظل لفترة طويلة من الزمن علامة على الامكانات الشاعرية للكاميرا وللمونتاج (التوليف)، وتحديداً على خلق التوازنات التي يمكن للتوليف ان يصنعها مشتغلاً على الموضوع في شكل لم يسبق لأحد ان بلغ ما فيه من جرأة. هذا الفيلم هو «الرجل ذو الكاميرا» لدزيغا فرتوف. وهو الفيلم الذي تقول عنه كتب تاريخ السينما عادة انه «إذا كان ثمة من سينما تقف في تاريخ هذا الفن على يسار اليسار المتطرف، فهذا الفيلم يمثل هذه السينما» و «مخرجه يمثل اتجاه التمرد المطلق على الأشكال والمواضيع السينمائية». ومن هنا لم يكن غريباً ان يعمد «شيخ المشاكسين» في السينما العالمية جان - لوك غودار، في عز انتفاضة الطلاب والمثقفين في 1968، الى تأسيس جماعته السينمائية المشاكسة المتمردة تحت اسم «مجموعة دزيغا فرتوف». وعلى رغم ان فرتوف حقق الكثير من الأفلام، من المؤكد ان «الرجل ذو الكاميرا» ظل ويظل الأكثر تأثيراً وحضوراً. خصوصاً ان السينما عبره كانت، وللمرة الأولى، تتعامل مع ما سمي في حينه «التقاط الحياة بصورة مباغتة».


صحيح ان افلاماً عدة، تنتمي الى ما يشبه التوجه العام الذي سار فيه «الرجل ذو الكاميرا»، كانت سبقت في وجودها هذا الفيلم الأخير، لا سيما «برلين... سيمفونية مدينة»، غير ان أياً منها، ولا حتى هذا على روعته، تمكن من ان يحوّل الفيلم الى قصيدة شاعرية حقيقية، حافلة بالمفاجآت والتناقضات والسخرية والحنان، حيث يشعر المرء أمام هذا الفيلم كأنه أمام تلك «الكتابة الأوتوماتيكية» التي انتجت، في عرف اندريه بريتون وأصحابه، الأدب السوريالي.

> ليس هناك في «الرجل ذو الكاميرا» أي حكاية. فالفيلم، بعد كل شيء، ليس فيلماً روائياً. والشخصية «الممثلة» الوحيدة فيه هي شخصية المصور التي يلعبها ميخائيل كوفمان (شقيق المخرج) الذي كان، في الحياة الطبيعية مصوراً سينمائياً بالفعل. وهو هنا في الفيلم يصور ويصور في آن معاً، طوال ذلك النهار «الاعتيادي» الذي شاء دزيغا فرتوف ان يلتقطه من يوميات الحياة في مدينة أوديسا الساحلية الجنوبية في الاتحاد السوفياتي ذلك الزمن. والحال ان هذه المدينة وسكانها، هم «أبطال» الفيلم: تصورهم الكاميرا، متسللة الى حياتهم، بيوتهم، مكاتبهم، أوقات راحتهم، أوقات تأزمهم، علاقاتهم. انها (الكاميرا) هنا لتحيط بهم من كل جوانبهم، مرافقة اياهم منذ صبيحة ذلك اليوم، حتى مسائه، ولكن ليس في ترتيب كرونولوجي أو مكاني. بل في «شرائح من الحياة» تتوازى وتتقاطع وتتصادم، وتتنافى، من دون ان يفوت السينمائي ان يصل بكاميراه بعيداً الى موسكو، في واحد من مشاهد الفيلم للتعبير عن نظرة توازي وتوازن بين المدينتين.

> من ناحية شكلية «الرجل ذو الكاميرا» هو فيلم الفوضى، فهنا - عند سطح الأمور - لا يبدو ان ثمة أي منطق يجمع بين المشاهد واللقطات المصورة. ولكن في النهاية تكشف لنا نظرة إجمالية الى الفيلم ان ما رأيناه انما هو «هدير المدينة» قُدّم وكأنه سيمفونية بصرية، طوال الخمس والستين دقيقة التي يشغلها هذا الفيلم، الذي كتبه وأخرجه وولفه دزيغا فرتوف فكان عبره مؤسساً ورائداً.

> ينطلق «الرجل ذو الكاميرا» أصلاً من فكرة بسيطة، لطالما كررتها السينما بعد ذلك: نحن الآن في صالة لعرض الأفلام... المقاعد تمتلئ بالتدريج، تماماً كما تبدأ الشاشة باحتواء المشهد. وفجأة نجدنا قد انتقلنا من سطح الشاشة الى داخل الحياة نفسها. ويطالعنا مصور سينمائي يعتلي سيارة ويصور. لكن الذي يصوّر هنا يصوَّر في الوقت نفسه... وهو خلال ذلك كله يعيش حركة دائمة سرعان ما تبدو، بالنسبة الينا، موازية لحركة المدينة التي يصورها، ذلك ان المصور هنا يصور مدينة أوديسا خلال حياتها اليومية، وانطلاقاً من صخب تلك الحياة. ونحن نشاهد المدينة وحركتها من خلال تحركات هذا المصور الذي يعايش المدينة. متابعاً ايقاعاتها وتوترها، ومن كل الزوايا يدخل البيوت وأماكن العمل واللهو. لكن «صانع الفيلم» هذا ليس وحده من يواجهنا هنا، فنحن، معشر المتفرجين، سنشاهد أيضاً «رجل المونتاج» وهو بدوره منكب على عمله. يلصق اللقطات والمشاهد الى جانب بعضها البعض، ويعيش بدوره ايقاع المدينة وتوتر المشاهد التي صورتها. وفي نهاية الأمر، إذ تبدو المشاهد التي يولفها هذا الرجل متمردة عليه، غير راغبة في الانتظام في أي منطق، ينتهي الأمر بالكاميرا التي يحملها المصور «الرجل ذو الكاميرا» الى الإفلات من بين يديه، لتعتلي خشبة المسرح أمام الشاشة وتبدأ بأداء دور راقص مدهش في حيويته، يبدو وكأنه يقلد ايقاع المدينة وتوتر الحياة فيها. وكل هذا يبدو - في عمل فرتوف - وكأن له عفويته واستقلاله التامين. ومن هنا أطلق المؤرخون على هذا الأسلوب اسم «سينما مباغتة الحياة».

> إذاً، ما نشاهده في «الرجل ذو الكاميرا» هو مجموعة من المشاهد واللقطات التسجيلية، نظمت تبعاً لمونتاج شديد التعقيد، لتصور تلك الحياة في المدينة، في يوم يبدو شبيهاً بأي يوم آخر: فالمدينة تستيقظ عند الصباح، وعمالها البروليتاريون يتوافدون على أماكن عملهم، والآلات تبدأ على الفور بالتحرك في لعبة انتاج صاخبة. أما الشوارع فتبدو مفعمة بالحركة النهارية المدهشة. وبعد ذلك تحل استراحة الغداء، ثم قيلولة بعد الظهر التي تتلوها مسرات السباحة عند الشاطئ بالنسبة الى بعض أصحاب الامتيازات. وحين يحل المساء، تبدو الكاميرا وكأن الأمور اختلطت عليها، وتتزاحم الصور فوق بعضها البعض، وفي الفضاء مع بعضها البعض. ويجن المصور، أما الشاشة فتبدو وكأنها قسمت قسمين كاشفة، كما يقول الناقد كلود بيلي، عن «لا محدودية هذه العين الميكانيكية». والحال ان استخدام تعبير «العين الميكانيكية» لوصف الكاميرا، ليس من عند بيلي، بل من عند دزيغا فرتوف نفسه. ذلك السينمائي الشاعر والمنظّر المتمرد، الذي كان - هو - أفضل من عرّف ومنهج أسلوبه، في بحوث جمعت في كتاب حمل، تحديداً عنوان «السينما/ العين».

> ودزيغا فرتوف، هو الاسم المستعار للسينمائي دنيز كوفمان الذي ولد العام 1896 في بياليستوك، ومات في موسكو في العام 1954. وفرتوف تلقى دراسات أدبية وفنية، قبل ان ينخرط في عالم السينما مولّفاً، منذ العام 1916 في بتروغراد، منضماً الى الحزب الشيوعي باكراً، مؤمناً بضرورة العمل الفني داخله. وهو وضع بدءاً من العام 1920 تلك الدراسات والنظريات السينمائية التي تطلب من الكاميرا ان تكون عيناً تلقي نظراتها على الحياة. وهذه النظريات لم تعرف وتنتشر على نطاق واسع الا بعد العام 1960، إذ انها طمست كثيراً في الاتحاد السوفياتي طوال الفترة الستالينية، لمصلحة سينما الواقعية الاشتراكية والبطل الايجابي. وكانت بدايات فرتوف السينمائية كمبدع عبر «الأسبوع السينمائي» حيث في 40 حلقة متتالية صوّر الأحداث والأماكن في نظرة غير مألوفة لم تنل رضا السلطات أول أيام الثورة البلشفية (1918 - 1919). أما أول أفلامه التوليفية الكبيرة فكان «ذكرى مرور عام على الثورة»... وهو من بعده، وحتى أواخر الأربعينات، حقق الكثير من الأفلام وكتب الكثير من الدراسات. ومن بين أفلامه الكبيرة «الى الأمام أيها السوفيات» و «الجزء السادس من العالم» و «3 أغنيات عن لينين» و «3 بطلات»... اضافة الى سلاسل «كينو - برافدا» (سينما الحقيقة) الاخبارية...