خالد عبيد: الشيخ محمد القروي هو الذي صاغ مجلة الأحوال الشخصية والذاكرة الجماعية غيّبته

خالد عبيد: الشيخ محمد القروي هو الذي صاغ مجلة الأحوال الشخصية والذاكرة الجماعية غيّبته

يعتبر الاستاذ خالد عبيد من المؤرخين الذين يسعون لاقامة جسور بين المعرفة الاكاديمية و المشاغل المجتمعية من خلال مؤلفاته و مساهماته في الشان العمومي. موقع "نسمة" التقاه فكان الحوار التالي


أصدرتم مؤخرا كتابا يعني بسيرة الشيخ محمد القروي و ما يمكن اعتباره رحلة من "جماعة المكانة" إلى "مكانة الفرد"، ما هي أهم ملامح هذا الانتقال؟

الصدفة هي التي دفعتني لاكتشاف خمسة أوراق في ملفّ صغير يحمل اسم :"محمّد القروي" في الأرشيف الفرنسي، فبدأت الرحلة، رحلة البحث عن الجذور، عن التأسيس، لأنّه في بداية دراستنا لهذه الشخصية ارتأينا أنّه لا يمكننا فهمها وإيلائها ما تستحقه إلاّ إذا ما غصنا في أغوار الماضي، في أغوار التأسيس، التأسيس لمكانة عائلة أصيلة القيروان استقرّت في مدينة سوسة ربّما في بداية القرن التاسع عشر، أين تمكّن الجدّ المؤسّس محمّد من أن "يفرض" شيئا فشيئا النفوذ المعنوي لعائلته خاصّة من ناحية الانتساب للنسب الشريف وترأّس الطريقة القادرية بسوسة وبالأخصّ التبحّر في الدين، وجذّر الابن المؤسّس خليفة هذه المكانة أكثر فأكثر، "مكانة الجماعة" و"جماعة المكانة" إلى درجة "الاندماج" الكلّي في المجتمع السوسي، إثر ذلك تصدّر الحفيد المؤسّس الذي ركّزنا عليه في الكتاب وهو محمّد القروي، وتمكّن من أن يفرض ذاته ككيان شخصي ليس داخل هذا المجتمع فقط بل أيضا تجاه سلطة الحماية الفرنسية وخاصّة تجاه دولة الاستقلال، فكان أن نحت محمّد القروي "مكانة الفرد" وأسّس لها في مراكمة مع مكتسبات الجدّ والأب دون قطيعة وإن تجاوز نحو فرض الذات لأنّ الكيان الجماعي قد تجسّم من قبل، لكن، في التأسيس للفرد ومكانته، لم يتمكّن محمّد القروي أو لم يسعفه الموت كي يكمل المسار ويختار من سراكم من بعده، فكان أن نُسي، وغيّبته الذاكرة الجماعية للتونسيين، وكان هذا الكتاب ليعيد الاعتبار إليه.

حسب ما توصلتم إليه فان الشيخ محمد القروي هو أب مجلة الأحوال الشخصية، هل من توضيح لهذه الأبوة؟

المقصود من ذلك هو الدور المحوري الذي أسند إلى القاضي الشرعي محمّد القروي ودولة الاستقلال باتت مرتقبة وذلك منذ أكتوبر 1954 ، عندما عُيّن في وزارة العدل كبير متفقدي القضاة الشرعيين وثُبّت أكثر في مكانته مع أوّل حكومة وطنية بعد إعلان الاستقلال، والتي ترأّسها الحبيب بورقيبة، والتي باشرت مشوار إصلاح القضاء في تونس وتوحيده وخاصّة تونسته، وقد أعلن عن هذه الإصلاحات مبكّرا جدّا في أوت 1956 ومنها مجلّة الأحوال الشخصية، و"الأبوّة" التي نسبناها إلى محمّد القروي تكمن في اعتقادنا الجازم بأنّ مجلّة الأحوال الشخصية كما خرجت للتونسيين آنذاك شكلا ومضمونا يقف عليها محمّد القروي، فهو الذي صاغ فصولها ودوّنها ونقحها على ضوء استشارات من هنا وهناك بالتنسيق مع وزير العدل أحمد المستيري وأحيانا مع الحبيب بورقيبة وفي تواصل مع الشيخ الفاضل بن عاشور بالخصوص، صحيحٌ أنّ محمّد القروي كان ضمن لجنة ثلاثية وفق المستيري، لكن شكّل هو عمودها الأساسي بحكم تخصّصه الديني وهو ما لا نجده عند الثنائي الآخر المشكّل للجنة.

وقد يخلط البعض ويتسرّع فينكر ما توصّلنا إليه، وهذا أمر متوقع، لأنّ هذه النتيجة لا يمكن استساغتها بسهولة، ويذهب هذا البعض أكثر فينسب هذا الأمر خلطا إلى الطاهر الحدّاد أو محمّد العزيز جعيط..وهو أمر متوقع أيضا، لأنّهم لا يدركون ما معنى المراكمة في الفعل التاريخي؟ مراكمة التواصل وليست مراكمة القطيعة، أو إلغاء مآثر من سبق وهذا الإلغاء خصلة "يتميّز" بها التونسي بكلّ أسف، أو بعض التونسيين، حتى لا نعمّم.

ما توصلتم إليه يدعو إلى طرح سؤال حول علاقة دولة الاستقلال بالإسلام، كيف كانت العلاقة حسب رأيكم؟

لديّ شبه قناعة بأنّ الموقور الآن عن عداء ما لدولة الاستقلال تجاه الدين الإسلامي هو نتيجة ما أسميته بالخلط التاريخي، الذي تناقلته أجيال من التونسيين دون أن تتساءل يوما حول مدى صحّته من عدمه؟ ! بل ونجد حتى حركات تتبنّى ما يسمّى بـ: "الإسلام السياسي" بنت جزءا من مشروعيتها على هذا الأساس، بينما، وفي نظرنا لم تكن دولة الاستقلال في عداء مع الإسلام بل كانت في عداء وفي حرب ضدّ كلّ العادات السيّئة والباطلة التي تنسب زورا وبهتانا إلى الإسلام والدين منها براء، لكن وعي الآباء والأجداد آنذاك لم يرتق إلى استكناه هذا الفرق، فكان أن عدّ موقف دولة الاستقلال معاديا للدين وكبر هذا الخلط منذ تلك الفترة وتدحرج في الأذهان مثل كرة الثلج، إلى أن بات حقيقة شبه مقدّسة؟!

فكان هذا الكتاب الذي يجيب بطريقة ضمنية ويلمّح دون أن يقع في مطبّ الجدل العقيم، بل أجاب من خلال الدليل الملموس على مدى هشاشة مثل هذا الخلط الموقور اعتمادا على النفي المدعوم في سيرة القاضي الشرعي محمّد القروي.

في مستوى الدور البيداغوجي للتاريخ إن صح القول ما هي أهدافكم من نشر هذا الكتاب للجمهور الواسع؟

هي محاولة نرغب أن تكون جادّة لإثبات أنّ الكتب الجامعية ليس مكانها داخل أسوار الجامعة ورفوف مكتباتها وخزائنها، والدليل، هذا الكتاب الذي عملنا على التعريف به لدى الجمهور الواسع من التونسيين، وذلك حتى يدركوا أنّ الجامعة تقوم بمهمّتها في حفظ الذاكرة وأن لا مكان لكلّ من يدّعي عن جهل ويدعو إلى ما يسمّيه بـ: إعادة كتابة تاريخ الحركة الوطنية أو تاريخ تونس المعاصر، أو يجاهر زورا وبهتانا بأنّ تاريخنا مزوّر وكاذب، بينما كلّ من يدّعي هذا المنحى لا يفقه شيئا من أبجديات علم التاريخ.

ولا يمكن إنهاء مثل هذا "التطفّل" على مهنة غير مهنته وعلم ليس أهلا للحديث عنه، إلاّ إذا تعاونت الجامعة مع كلّ من يضمن انتشار المعرفة التاريخية لعموم التونسيين من وسائل إعلام ودور نشر والقائمين على مسالك توزيع الكتب، وذلك حتى يدرك الجميع ويستوعب بأنّ الجامعة هي مصدر المعلومة التاريخية وليس غيرها.