معطيات جديدة عن قضية باب سويقة

معطيات جديدة عن قضية باب سويقة

تمّت مؤخرا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس مناقشة بحث أكاديمي حول حادثة باب سويقة الشهيرة التي جدّت فجر يوم 17 فيفري 1991. ويعدّ هذا البحث الذي ناقشه الباحث محمد اليوسفي بتأطير من الأستاذ والمؤرخ الأكاديمي عبد الواحد المكني نائب رئيس جامعة صفاقس، أوّل عمل أكاديمي يقوم بالنبش في فترة شائكة من التاريخ السياسي الرّاهن في تونس للحقبة النوفمبرية.


وأفاد الباحث محمد اليوسفي في حوار لـموقع "نسمة" أنّ معطيات وحيثيات جديدة تمّ كشفها من خلال هذا البحث الذي هو يؤرخ ويوثّق للفترة الممتدة بين 1987 و 1992 والتي شهدت تقلّبات سياسيّة جمّة لاسيما في مستوى العلاقة بين السلطة الحاكمة وقتئذ و حركة النهضة التي صعد نجمها بواسطة القائمات البنفسجيّة في انتخابات 2 أفريل 1989 التي شابها التزوير، وذلك من التعايش والوفاق والتشريك السياسي الرمزي (مثل المجلس الإسلامي الأعلى و هيئة صياغة الميثاق الوطني) وصولا إلى الصدام والمواجهة التي انتهت بتغليب الحلّ الأمني بمنطق الغلبة الخلدونية وعبر توظيف كلّ الوسائل المشروعة وغير المشروعة بما في ذلك الإعلام والقضاء و الأجهزة الأمنية والعسكرية لضرب تنظيم حركة النهضة الذي أقرّ وقتها خطّة "فرض الحريات" ومن خلالها سياسة "تحرير المبادرة" التي يبدو أنّ هدفها كان افتكاك السلطة أو دفع الأطراف الحاكمة إلى الإذعان لمطالبها والمتمثلة خاصة في منحها التأشيرة القانونية ، وذلك في خيار استراتيجي راديكالي لاعقلاني لم يفرّق بين ضوابط النضال المدني السلمي من أجل الديمقراطية و الأساليب العبثية في التسرّب لمؤسسات حسّاسة في الدولة كالجهاز الأمني واختراق حزب التجمع (مثال حالة ماهر المذيوب) وانتهاج العنف السياسي في بعض الأحداث.

وقد أكّد اليوسفي أنّ بحثه أنجز بناء على مصادر متنوعة من بينها شهادات شفوية لعدد من الشخصيات التي حوكمت في القضيّة من قواعد وقيادات حركة النهضة ، علاوة عن استنطاق واستقراء بعض الوثائق الأمنية والقضائية و الحزبية ونصوص وكتابات صحفية وتاريخية وسياسية ذات علاقة بالموضوع الآنف ذكره منها ما هو منشور قبل الثورة مثل ما سمي بالاستخلاصات التقويمية التي أصدرتها حركة النهضة في الذكرى 15 لتأسيسها عقب عقد أوّل مؤتمر لها في المهجر سنة 1995 وكتب وحوارات لراشد الغنوشي و تصريحات و مقالات صدرت عن عبد الفتاح مورو و الفاضل البلدي و بنعيسى الدمني و محمد شمام والصادق شورو (أمير تنظيم الحركة وقتها) ، زيادة عن وثيقة "جريمة باب سويقة" منشورات الوكالة التونسية للاتصال الخارجي أوت 1991 ، بالإضافة إلى تسجيلات سمعية- بصرية و مواقف ومعلومات تمّ التصريح بها عقب 14 جانفي 2011.

الاستنتاج الأبرز الذي رشح عن البحث هو أنّ منفذي عملية الهجوم العنيف على مقر لجنة التنسيق الحزبي للتجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم وقتذاك والذين هم من أبناء حركة النهضة من الصعب الجزم بأنّه كانت لهم نية للقتل العمد خلافا للرواية الرسمية للسلطة التي سجلتها الذاكرة إلى حدّ الآن وعلى امتداد سنوات ، والتي روّجت آنذاك إلى وجود عملية شدّ وثاق للحارسين عمارة السلطاني و محمد لزهر بن رجب (ينتميان لما سميّ لجان اليقظة) اللذين تعرضا للحرق في حادث يبدو أنّه عرضي غير مقصود أثناء المداهمة والشروع في سكب البنزين داخل المكان ، وهو ما أثبتته الأحكام الأولى التي أصدرها القاضي حسن بن فلاح والتي بلغت في أقصاها السجن المؤبد. وقد كانت حادثة باب سويقة امتدادا لعمليات حرق أخرى لمقرات حزب التجمع بتونس العاصمة وبعض الجهات الأخرى كمنزل بورقيبة كما استهدفت أيضا مراكز أمن.

ويكمن التطور الحاصل وقتها في أنّ مخطط حرق لجنة التنسيق الحزبي للتجمع الدستوري الديمقراطي كان مباشرا ومعدا مسبقا حيث تمّ اقتحام المكان واستعمال البنزين بغرض إشعال النار في المقر بعد تحييد الحرّاس. في حين أنّ عمليات سابقة كانت تتم اثر مسيرات تنتهي بقذف المقرات من الخارج بالزجاجات الحارقة. وكان من بين المخططين للعملية عنصر حركي نهضوي تمكن من اختراق لجنة التنسيق والاندساس في الشبيبة الدستورية (عمره وقتها 17 سنة) بهدف تمكين القيادات المحلية للحركة في تونس المدينة من المعلومات والمعطيات وهو كان من مهندسي مخطط حرق مقر لجنة التنسيق الحزبي بباب سويقة في إطار التصعيد الميداني الذي ينطوي على رسائل سياسية لا علاقة لها بمسألة الوثائق التي تمّ الحديث عن كونها كانت الهدف الرئيسي من العملية. فضلا عن ذلك فإنّ النواة الرئيسية للمجموعة التي خططت للعملية هي نفسها هي التي قامت بحرق شعبة الأسواق في تونس المدينة قبل أيام من الهجوم فجرا على مقر لجنة التنسيق بباب سويقة.

هذا وقد اعتبر محمد اليوسفي أنّ الحادثة شكلّت منعرجا خطيرا في سياق الصراع حامي الوطيس الذي احتدم عندئذ بين حركة النهضة ، التي حاولت استغلال ظرفية حرب الخليج و الفوز الانتخابي للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات المحلية الجزائية من أجل محاولة تقويض أركان النظام الحاكم في تونس ، والسلطة التي استغلت واقعة باب سويقة لكي تستمد مشروعية أكثر لخيار القمع والاستئصال الذي اُنتهج ضد الإسلاميين السياسيين وكانت في وقت لاحق المحاكمة العسكرية لقيادات تنظيم حركة النهضة أحد أبرز مظاهره في صائفة 1992.

ويرى الباحث محمد اليوسفي أنّ بعض الفئات صلب حركة النهضة لم تكن صارمة في القطع مع منهاج العنف السياسي الذي اختارت السير فيه عبر الزج بقواعد شابة متحمسة لأطروحات يمكن وصفها بـ"الجهادية" نظرا لتركيبتهم النفسية و العقائدية ، في أتون معركة غير متكافئة أتاحت للسلطة السياسية وللرئيس بن علي فرصة لخلق "فزّاعة" مكنته من إحكام القبضة الأمنية على الدولة والمجتمع ومن ثمّ تضييق الخناق على الحريات ووأد أيّ مبادرة للسير نحو التعددية والديمقراطية الحقيقية خاصة بعد تعيين عبد الله القلال وزيرا للداخلية و الجنرال علي السرياطي مديرا عاما للأمن الوطني وما تلى ذلك من أصداء و معطيات لتعذيب حصل وقد أسفر عن وقوع حالات قتل و ترهيب معنوي وبدني من قبيل ما وقع لعبد الرؤوف العريبي عضو مجلس الشورى في حركة النهضة.

واستغرب محمد اليوسفي ما اعتبره تنكّر قيادات حركة النهضة للقضيّة التي تتحمّل هي المسؤولية الأدبية والسياسية والأخلاقية في المصير الذي لاقاه 3 من قواعدها وهم مصطفى بن حسين و محمد الهادي النيغاوي (والدته لها صلة قرابة براشد الغنوشي) و محمد فتحي الزريبي الذين تمّ إعدامهم يوم 9 أكتوبر 1991 ومازال مكان دفنهم مجهولا إلى اليوم حيث لم يفتح الملف ، حتّى زمن إشراف علي العريض على وزارة الداخلية و نور الدين البحيري على وزارة العدل و سمير ديلو على وزارة حقوق الإنسان و عبد اللطيف المكي على وزارة الصحة ، من أجل تمكين عائلاتهم من الرفات ، مضيفا أنّ هذه المسألة بالذات يجب أن تأخذ منحى إنسانيا بعيدا عن الحسابات السياسية و المقاربات المتباينة في معالجة مثل هذه القضية التاريخية التي تندرج ضمن مسار العدالة الانتقالية الذي قال حوله إنّ من بين أسباب تعثرّه تغييب الأطر الأكاديمية العلمية وتغليب منطق أرعن يعلي من شأن المناكفات السياسوية و التوظيفات الإيديولوجية. وحريّ بالإشارة إلى أنّ مسار محاكمة المتهمين في القضية كان قد عرف اخلالات جمّة وثّقها العميد محمد شقرون في نصّ تحت عنوان" حادثة باب سويقة بين الحقيقة والتزييف". وقد تضمنت الأحكام الثانية التي صدرت من قبل المحكمة التي ترأسها القاضي عبد القادر الذائع في جوان 1991 ضربا لكلّ مبادئ المحاكمة العادلة بسبب الضغوطات السياسية من السلطة التنفيذية ، وفقا لما صرّح به الباحث محمد اليوسفي الذي أفاد أنّ البحث سوف يصدر قريبا في كتاب يعالج قضيّة باب سويقة و بعض القضايا الأخرى "الملغومة" مثل قضيّة براكة الساحل وهي مسائل إشكالية شائكة حبلى بنقاط الظلّ التي تهم السنوات الأولى من فترة حكم الرئيس بن علي والتي كان من المفترض أن تلج فيها البلاد نادي الدول الديمقراطية غير أنّها سقطت في أتون نظام بوليسي استبدادي كان أشدّ وطأة من سلفه البورقيبي ، حسب تعبيره.

من جهة أخرى ، أوضح محمد اليوسفي أنّ بحثه يعدّ من الدراسات العلميّة القليلة التي حاولت الغوص في غياهب تنظيم حركة النهضة بشقيه السرّي والعلني خلال الفترة التي تلت حدث وصول الرئيس بن علي إلى السلطة و إلى غاية سنة 1992 من خلال النبش في أدبياته وأطروحاته و تعاطيه السياسي مع مستجدات الأحداث وقتذاك ، زيادة عن نفض الغبار عن طريقة عمله واشتغاله من الناحية التنظيمية عموديا و أفقيا.

كما أنّه يقدّم معطيات جديدة حول ظروف وملابسات مغادرة رئيس الحركة راشد الغنوشي إلى الخارج في ماي 1989 بقرار مؤسساتي لأسباب عديدة يشرحها الكاتب في بحثه ، و حيث سيظلّ يتنقّل بين عديد العواصم من الجزائر إلى القاهرة و باريس فالخرطوم وغيرها وصولا إلى لندن التي سيستقرّ بها كلاجئ سياسي ولن يعود إلى البلاد إلاّ إثر انتفاضة الشعب التونسي بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس بن علي وأتاحت لجميع الأطياف السياسيّة التنظّم والنشاط في مناخ من الحرية و الديمقراطيّة والتعدديّة التي تعكس تنوّع المجتمع التونسي فكريّا و سياسيّا.

كما يؤكد الباحث اليوسفي أنّ حادثة باب سويقة أفضت إلى حصول شرخ تنظيمي صلب حركة النهضة(انشقاق مجموعة مورو وإعلانه عن مبادرة لتأسيس حزب جديد لم تتعاط معه السلطة بايجابية) والتي مازالت تتجرّع إلى اليوم مرارة و نتائج خطّة المواجهة التي أقرتها ضدّ السلطة وقتها والتي تسبّبت في العديد من المآسي والمظالم والشروخ الاجتماعية علاوة عن خسارة البلاد لكفاءات هامّة كان من الممكن أن تمثّل رافدا للبنيان الديمقراطي ، وفق رأيه.

ويقدّم البحث شهادات تاريخية لشخصيات فاعلة في حركة النهضة وقتها وهي من العناصر القيادية حاليا حيث يضطلع بعضها بعضوية مجلس الشورى.