حوار مع مهدي مبروك: التهريب والإرهاب والهجرة السرية حلقات مترابطة

حوار مع مهدي مبروك: التهريب والإرهاب والهجرة السرية حلقات مترابطة

تمثل الهجرة السريّة ملفا حارقا يطرح ويعاد طرحة بشكل دوري على جدول أعمال الدّول والحكومات والمنظّمات الدّولية. ورغم أن البعض لا يعتبرها معطى جديدا على السّاحة السياسيّة التونسيّة، بل ويذهبون إلى اعتبارها ظاهرة مقترنة بالتاريخ الحديث لدول البحر الأبيض المتوسّط، إلّا أن التغيّرات السياسيّة في المنطقة بعد الرّبيع العربي طرحتها من جديد على طاولة التفاوض الاجتماعي.

في هذا الإطار أجرى موقع قناة نسمة حوارا مع أستاذ علم الاجتماع المتخصص في ظاهرة الهجرة غير الشرعيّة ومدير مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – تونس، الأستاذ مهدي مبروك وذلك للوقوف على تاريخ هذه الظاهر والتعمّق في أسبابها وتمظهراتها. مهدي مبروك كان قد نشر سنة 2010 دراسة بعنوان " أشرعة وملح "، واحدة من الدراسات الجدّية القليلة التي اهتمت بالموضوع والتي عمل عليها بشكل سرّي او كما يحلو له تسميتها، في شكل " مغامرة حرّة " توصّل خلالها إلى جمع عديد المعلومات استنادا إلى بحث ميداني وذلك بعد رفض وزارة الدّاخلية منح تأشيرة العمل الميداني لوحدة بحث حول الهجرة السريّة أنشأها مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية.


 

متى برزت ظاهرة الهجرة السريّة؟

 

   - لا يمكن الحديث عن نقطة بروز للهجرة السريّة. الهجرة السريّة موجات ولا يمكن أن نضعها في سلّة واحدة. أول موجة كانت في السبعينات ووجهتها ليبيا. الهجرة السريّة إلى ليبيا لها واقع سياسي وسوسيولوجي معين. خط الهجرة إلى ليبيا كان خطا بريا وكان المهاجرون يسمّون " مازقري " وهي إحالة على الغرباء على الأرض. التونسيّون كان لهم نصيب وافع من اليد العاملة إثر الانتعاش النفطي للاقتصاد الليبي في تلك السنوات، بالإضافة إلى انعكاسات القرار الأوروبي القاضي بفرض التأشيرة سنة 1974 كرد على الحضر النفطي الذي فرضته الدّول العربية. لأول مرّة في تاريخها تمارس الدّول العربيّة نوع من العقوبات على أوروبا، إثر الحرب العربية الصهيونية سنة 1973. 

ولكن يجب أن نشير إلى أن إيطاليا بقيت مفتوحة آن ذاك، لكنها لم تكن جاذبة نظرا لاقتصادها المتخلف. إيطاليا عرفت نهضتها الاقتصادية في التسعينات، أي بعد انضمامها لمنطقة اليورو، وهو ما يتزامن مع الموجة الثانية من الهجرة. بين السنوات 1986 على 1990 بدأ مجال " "شانغان" بالتشكّل، ومن شروط الانضمام تغيير سياسات الهجرة. بالتالي فرضت إيطاليا " الفيزا " في أواخر التسعينات لتبدأ الموجة الثانية من الهجرة والتي كان طريقها بحري ويسمّى المهاجرون " بالحرّاقة " في إحالة إلى عبور البحر.

الموجة الثالثة هامة جدا وحدثت في الفترة ما بين جانفي وأفريل 2011، أي مباشرة بعد الثورة، والتي سجّلت حسب إحصائيات المنظمة العالمية للهجرة، 30000 مهاجر خلال بضعة أسابيع وهو ما جعل الأوربيين يسمونها بـ " تسونامي الهجرة " إذْ تعتبر أكبر موجة آتية من إفريقيا والمغرب العربي.

 

هل يمكن الرّبط بين الإجراءات المتعلّقة بالهجرة في الضفّة الأوروبيّة وتصاعد وتيرة الهجرة السرّية؟

 

طبعا ليس هناك موجة للهجرة السّريّة تندلع ذاتيا، فبغض النظر عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردّية في الضّفة الجنوبيّة للمتوسط تمثل سياسات الهجرة الأوروبية، المتمثلة في التضييق على مسارات الهجرة الشرعيّة سببا مباشرا في الرفع من حدّة الهجرة السّريّة.  لو كان هناك اتفاقية بين تونس وفرنسا مثل التي تم توقيعا في الخمسينات والستينات، اتفاقية تسهل استقطاب يد عاملة بشكل قانوني، لما كان هناك تنامي للمسالك غير شرعية للهجرة.

الإشكال في جزء منه قانوني، مثل هذه القوانين الخاطئة يخلق ما نسميه في علم الاجتماع بـ " تأسيس مصنع للهجرة غير الشرعيّة " وتكون فئة المهاجرين منتوج هذا المصنع. من ناحية أخرى فإن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتردّية في البلدان الطّاردة يساهم أيضا في الرفع من رغبة الشباب في الهجرة.

 

ماهي المواصفات الاجتماعية للفئة الأكثر انخراطا في الهجرة السرّية؟

 

 المواصفات غير ثابته، متحولة، وتحولاتها تعكس تغيّرا في ملامح المجتمع. مثلا النواة الاولي للمهاجرين إلى ليبيا في السبعينات كانوا ذكورا بين 20 و 30سنة، مستواهم التعليمي محود، من أوساط ريفية وقروية. ولكن فيما بعد نظرا لازمة البطالة الحادة وخاصة في خرجي الجامعات ونظرا لتحرر المرأة، الملامح تغيرت، أصبحنا نرى كهولا وهو انعكاس لموجات التسريح الكبيرة وهشاشة العمل. أصبحنا نرى كذلك أصحاب الشهائد العليا والقصر والنساء، كلها فئات جديدة على تجربة الهجرة السرّية.  قد لا تكون النسب كبيرة، لكن مجرد ظهور العامل النسائي يعتبر مؤشر ورأينا أيضا عائلات بأكملها تهاجر بعد الثورة.

 

البعض يعتبر أن الهجرة السرّية خرجت من منطق الظاهرة المعزولة وتحوّلت إلى تقليد مجتمعي، هل هذا صحيح؟

 

هذا الكلام فيه جانب من الصحة، يمكن أن نقول أن في تونس تقاليد للهجرة، فالظاهر أنتجت مع الزمن تراكم معارف وذاكرة جماعية وتقنيات وحيل وخيال. تقاليد الهجرة راسخة في المخيال الشعبي التّونسي ونعاينها في التعبيرات الثقافية مثل الأغاني وأفلام والصور، بالإضافة إلى المعجم اللغوي الخاص بهذه العملية. هناك دول عملت على تأسيس متاحف للتوثيق كنوع من العرفان والتكريم للضحايا. في تونس هناك عدة مساعي للمجتمع المدني في هذا السياق.

 

لمزيد الغوص في التفاصيل هل يمكننا أن نأخذ فكرة عن المراحل التي يمر بها المترشّح للهجرة السرّية؟

 

الموضوع معقّد، هناك ديناميكية كاملة تبدأ بمرحلة الاستعداد، ليس من السهل المرور إلى مرحلة الفعل، النفاذ إلى هذا الحقل، وهنا نتحدّث عن الحقل بالمعنى الرّمزي. كي تتحصّل على " خيط " يتطلّب تعبئة موارد ومعارف خاصة تكتسبها من المحيط الاجتماعي. المرحلة الثّانية هي مرحلة المفاوضة مع العائلة وأنا عكس العديد من المختصّين أعتبر أن مشروع الهجرة مشروع عائلي. بعض النساء يبعن جزء من الميراث أو الذهب أو حتى التخلي على جزء من الدّخل لتمويل تجربة الهجرة. بالتوازي مع هذه المرحلة يبدأ تنظيم الرّحلة الذي يتم عبر شبكة من الوسطاء، إذْ لا يكون هناك تواصل مباشر مع " الحرّاق "، الذي لا يظهر سوى في المرحلة الأخير وهي مرحلة المرور إلى الفعل.   

 

نظرا للتغيّرات التي طرأت على المنطقة بعد الثورة، هل يمكن أن تتحول الهجرة  السريّة إلى معبر للإرهابين يصلهم بأوروبا؟

 

التهريب والإرهاب والهجرة حلقات مترابطة. نفس الشبكات تسيطر على المجالات الثلاثة وهذا ليس بالمعطى الجديد. علي بن سعد طوّر في دراسة له مفهوم " التدفقات المختلطة "والذي أصبح مستعملا في عديد الادبيات العالمية. المنظّمون أو حتّى المترشّحون للهجرة يخرجون مثلا من ساحل العاج ثم يتم إغراؤهم بالمال للعمل في التهريب، ثم دمغجتهم ليتحوّلوا إلى إرهابيين ثم يعودون من جديد إلى حق الهجرة لمرّوا إلى أوروبا عبر ليبيا. مالي كانت محطة إعادة التوزيع كانت مالي في فترة ما قبل الرّبيع العربي، هذه الرقعة توسّعت اليوم.

 

إذا من يتحمّل المسؤوليّة؟

 

عالم الاجتماع يتجنب الدخول في تحديد المسؤوليات. لكن أتصوّر أن المسؤولية مشتركة وهذا ليس من باب الحذلقة. الاتحاد الأوروبي يتحمل مسؤولية أخلاقيّة من خلال تبنيه لسياسات مجحفة تجاه المهاجرين. لكن العائلة أيضا تتحمل جزء من المسؤولية فهي تمارس نوع من التحرّش بالأبناء ولا ننسى أيضا مؤسسات الدّولة.

 في كتابه " الثورة الجنسيّة " يقول فيلهالم ريش": " الحب والعمل والمعرفة مصادر للحياة... يجب التحكم فيها. "معالجة الظاهرة تمر عبر التدخّل على هذه المستويات الثلاث. نحتاج إلى علم كبير، شهائد ذات قيمة علمية وجدوى اجتماعي تمكن الإنسان من الحصول على عمل محترم يحفظ كرامته ونحتاج إلى فتح آفاق وفرص العمل ونحتاج إلى الحب، الحب بالمعنى الواسع، حب العائلة والأصدقاء والحبيبة وهذه النقطة الأخيرة مهمة. 

 

في النهاية، هل هناك دراسات جديدة في الأفق ستهتم بهذه الظّاهرة؟

 

هناك عودة للبحث الميداني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سيمضي قريبا اتفاقية مع جامعة ايطالية ومؤسسة بحثية مرموقة في هولاندا للاشتغال حول الهجرة واللجوء، وسنركّز بالأساس على ظاهرة المتاجرة بالبشر أي كيف تحول المهاجر إلى سلعة يرمى بها في أوكار الدعارة والإرهاب.