حريّة الضمير بين النصّ والممارسة

حريّة الضمير بين النصّ والممارسة

منذ مناقشته تحت قبّة المجلس التأسيسي وحتّى بعد المصادقة عليه، اعتبر الفصل السّادس من دستور الجمهورية الثانية (27 جوان 2014)، والذي ينصّ على ما يلي: "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي"، محلّ تباين واختلاف في الآراء.


إذ لاقى الفصل 6 استحسان العديد باعتباره أدرج حرية الضمير إلى جانب حرية المعتقد منسجما بذلك مع النصوص الدولية في هذا المجال، فقد اعتبر الأستاذ عياض بن عاشور، المتخصّص في النظرية السياسية الإسلامية وفي القانون العام أنّ هذا الفصل هو "أعظم مكسب لتحقيق الثورة بتحديث المجتمع التونسي وتحرير رقابنا من كابوس العبوديّة الفكريّة التي يروم البعض تسليطها علينا. وسيبقى علامة فخر واعتزاز للذين صوّتوا عليه وللشعب التونسي عبر القرون المقبلة".

في حين اعتبر متخصّصون في مجال القانون أنّ من السذاجة أن نرحب ترحابا حارا بالتصويت على الفصل السادس لمجرّد أنّه أدمج حريّة الضمير إلى جانب حريّة المعتقد. إذ يقول الأستاذ والباحث في القانون العام، خالد الدبابي، أنّ عند التمعّن المستفيض في الفصل 6 يتبيّن بسهولة أنّ هذا الفصل متضارب الأحكام ويتميز بانفصام وشرخ داخلي، مضيفا أنّ بقيّة منطوق هذا الفصل تناقض كليّا حريّة الضمير وحريّة المعتقد وحتى حريّة الفكر والتعبير، بما أنّه يجعل من الدولة التونسية "حامية للمقدسات". إذ أنّ بعد صيغة التعديل للفصل 6، أضيفت له فقرة تنصّ على ما يلي: "لدولة تلتزم بنشر قيم الاعتدال والتسامح وحماية المقدسات من كل الانتهاكات. ويحجر التكفير والتحريض على الكراهية والعنف".

بما أنّ نفس الفصل يجعل من الدولة راعية للدين، فإنّ المقصود بالمقدسات هي المقدسات الاسلامية دون الأديان الأخرى، لأنّ المقصود هو الدين الإسلامي المنصوص عليه في الفصل الأوّل.

 

حتّى تتمكّن الدولة من حماية المقدسات يجب أن تضبط قائمة في المقدسات، في حين أنّ تحديد ما هو مقدّس وما هو غير مقدّس من قبل الدولة هو مساس صارخ بحريّة الضمير والمعتقد.

 

حتّى بالنسبة للمقدسات الإسلامية نفسها، بخلاف القرآن الكريم المقطوع به فهناك اختلافات مذهبيّة جمّة حول البقيّة: ما هو مقدّس عند مذهب، ليس مقدّس عند مذهب آخر... هنا يعلّق الدبابي ليقول: "وفقا لهذا المنطق، فإنّ هذا الفصل يتيح مثلا تتبع كلّ شخص يكتب مجرّد مقال يعالج فيه حديثا ورد في البخاري أو مسلم بدعوى أنّ البخاري ومسلم “مقدسون” وعلى الدولة حماية المقدسات. ضرب واضح لا فقط لحرية الضمير بل لحريّة الفكر والنشر والتعبير".

 

ولد الكانز وكلاي بي بي جي وغازي الباجي وغيرهم، أسماء لوحقت قضائيا عند ممارسة حقّها في التعبير وحريّتها في التفكير... أسماء كان أهمّها جابر الماجري الذي قضى عقوبة بالسجن لمدّة 7 سنوات منذ مارس 2012، إثر اتهامه بترويج ونشر كتابات "من شأنها تعكير صفو النظام العام والإساءة للغير عبر الشبكات العمومية للاتصال والاعتداء على الأخلاق الحميدة" وذلك على خلفيّة نشره لصور كاريكاتورية مسيئة للرسول. فأين كانت حريّة الضمير؟

وقد شهدنا هذه الأيّام إلقاء القبض على الناشط أنيس قيقة بعد حجز مشروبات كحولية في سيارته عند إيقافه في عملية روتينية للتثبّت من أوراق السيّارة. قضى أنيس ثلاثة أيّام في مركز الإيقاف ببوشوسة. أنيس قيقة لم يكن في حالة سكر وهو يقود السيّارة مع ذلك حكم بثلاثة أشهر سجنا مع تأجيل التنفيذ. فأين هي حريّة الضمير؟

رسوم كاريكاتور أو أغنية أو فيلم... كالمجاهرة بالافطار أو شرب الكحول في شهر رمضان المعظم، حريّة ضمير يضمنها دستور تونس بعد الثورة. فمتى يغلق هذ الملفّ وتقف موجة الاعتقالات المتعلقّة بحرية الفكر والتعبير والضمير؟