الجورشي : "بورقيبة والثعالبي... ولعبة البحث عن الجد المشترك"

الجورشي : "بورقيبة والثعالبي... ولعبة البحث عن الجد المشترك"

نشرت صحيفة الضمير في عددها الصادر بتاريخ 22 سبتمبر 2015 مقالا بقلم الزميل "صلاح الدين الجورشي" تحت عنوان : "بورقيبة والثعالبي... ولعبة البحث عن الجد المشترك". وتعميما للفائدة يعيد موقع "نسمة" نشر المقال. 


بورقيبة والثعالبي

ولعبة البحث عن الجد المشترك؟

جميلة قصة البحث عن النسب. هذه القصة لم تأت من فراغ. وانّما أفرزت سياق سياسي وثقافي يتسم بالحراك والتحول. وكما يحصل في عالم الأفراد ي يمكن ان يتكرر بطريقة ما في حياة الجماعات. قد يصل شخص ما في لحظة من لحظات حياته إلى الاقتناع بانه يواجه إشكالا مع أصله، وينتابه شد في نسبه لينطلق في البحث عن أصله وجذوره. وقد يصل إلى فرضية ما لكنه أحيانا يجد ما يعترض على ذلك بقوة من قبل أشخاص يشعرون بأن مصالحهم ستصبح مهددة بسبب هذا الغليل الذي سيصبح شريكا في الميراث.

هذا ما يحدث في الأيام الأخيرة بعد أن قال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي "نحنا والدستوريون جدنا واحد، الشيخ الثعالبي شخصية وطنية كبيرة ظلمة وهو مؤسس الحركة الوطنية، آن الأوان لإعادة اكتشافها من جديد وكذلك الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر". وقد أثار هذا القول حفيظة الكثيرين اللذين استشعروا فيه احتمال خلط الأوراق التاريخية والسياسية من شأنها أن تفتح المجال أمام احتمال تغيير كبير في الخريطة السياسية الراهنة. ولهذا استنكر هؤلاء فرضية الغنوشي واتهموه بمحاولة الاستلاء على تراث غيره وادعاء نسب ليس من حقه.

ما أعرفه شخصيا في هذا السياق أننا في مرحلة تأسيس الحركة الإسلامية في تونس لم نعتبر الشيخ عبد العزيز الثعالبي أو غيره من الشخصيات التونسية مرجعا لنا. كنا نرى في حركة "الإخوان المسلمون" ورموزها بمثابة "الآباء الشرعيين" لنا، وقد بالغنا في احترامهم إلى حد التورط في حالة أشبه كانت بالتقديس لهم. ولم يكن لدينا كشباب في تلك المرحلة من السبعينات أية معرفة عميقة بتاريخ الحركة الإصلاحية التونسية، ولم نتوقف عندها لنجعل منها مكونا من مكونات وعينا الإيديولوجي والسياسي. حتى التراث الزيتوني كانت علاقتنا به متشنجة نتيجة عوامل متعددة.

كان اسم "الثعالبي" يذكر من حين لأخر داخل المجموعة الصغيرة المؤسسة لا بصفته أب للحركة أو جد له، وإنما في سياق الخصومة السياسية والفكرية التي قامت بينه وبين الحبيب برقيبة التي كان بالنسبة لنا في تلك المرحلة التأسيس العدو الرئيسي للإسلام وللحركة الإسلامية.

لقد عطل ارتباط "الجماعة" بالمرجعية الإخوانية إمكانية اكتشاف الخصوصية التونسية والتفاعل الجدلي مع رموزها. وقد تطلبت عملية التحرر التدريجي من هيمنة الإخوان إلى أزمة داخلية عاصفة قام بها بعد المؤسسين الذين سيحملون فيما بعد تسمية "الإسلاميون التقدميون"، والذين كانوا أولمن انتقد الإخوان وطالب بقطع الحبل السري معهم، ودعوا إلى تجذير الحركة الإسلامية في بيئتها التونسية. وفي هذا السياق بدأ اكتشاف الحركة الإصلاحية بمختلف رموزها، ومن بينها عبد العزيز الثعالبي.

الآن نأتي إلى الوجه الآخر من القصة. هل يوجد مانع من تقوم أي حركة سياسية أو فكرية بتصحيح مسارها، وأن تبن لنفسها جسورا مع شخصيات أو حركات سبقتها في الزمن وفي التأسيس. سيكون من الطبيعي أن يعترض المؤرخون على القول بأن الثعالبي يشكل المرجعية المباشرة للنهضويين، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى المس بوقائع التاريخ أو تشويهها، لكن الجميع يعلمون أن هناك حركات قامت بتغيير مساراتها الأيديولوجية وعدلت منها وسعت إلى إعادة النظر في تأصيل مرجعها. هناك قوميون ربطوا صلتهم فيما بعد بالفكر الماركسي، وهناك ماركسيون فعلوا العكس، ومنهم من أصبح يعتبر بورقيبة الذي كان يتم لعنه صباحا مساء ويوم الأحد إلى أب شرعي لهم.

ليس الفكر بناية مغلقة، وإنما هو مجال مفتوح يمكن إدماج جزء منه في منظومة قد تكون مختلفة معه في الأصول أو الفروع. المهم في هذا السياق احترام الأمانة التاريخية، والتعامل بموضوعية مع عالم الأفكار دون التعسف في التأويل أو مصادرة حق الأخرين في التطور أو التغيير. فحركة النهضة مطالبة بأن تمارس نقدها الذاتي من خلال القول بأنها ولدت في سياق إيديولوجي إخواني، قبل أن تدفعها الظروف والمصالحة والأزمات الداخلية إلى تعديل الاتجاه والاقتراب تدريجيا من الأيدولوجية الوطنية ذات المنحى الإصلاحي.

وإذا انتقلنا إلى الضفة المقابلة، ورصدنا ما يدور من جدل مرشح ليكون صاخبا في مرحلة قادمة، للاحظنا الاختلافات العميقة التي تشق العائلة الدستورية منذ أن اختلطت أوراق الدستوريين بعد سقوط بن علي ومن ورائه حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الذي نباه على أنقاض الحزب الدستوري.

هناك إشكال آخر أصبح مطروحا من جديد على الدستوريين بعد أن ظنوا بأنه قد حسم منذ فترة طويلة. من هو جد الدستوريين عبد العزيز الثعالبي أم الحبيب بورقيبة؟ حقا هو سؤال مقلق للكثيرين لأنه سؤال إشكالي يدفع نحو مراجعة نقدية جريئة لتاريخ الحركة السياسية والثقافية التونسية. فالخلاف ما بين الثعالبي وبرقيبة ليس بسيطا، ولم يتوقف فقط عند البعد التنظيمي أو السياسي، وإنما تجاوز ذلك إلى المستوى الفكري والثقافي. ولهذا السبب فشلت محاولات التقارب بين الرجلين رغم استعداد الثعالبي لذلك إثر عودته من المشرق وتعرضه للقذف بالطماطم من قبل أنصار بورقيبة، وهو ما جعله يقرر الانسحاب نهائيا من البلاد ويعود إلى المشرق بعدما تأكد أن الأمر قد حسم لصالح الحزب الجديد. وقد استمر الخلاف بين الحزبين حتى بعد حصول البلاد على الاستقلال والشروع في بناء "الدولة الوطنية".

عندما يتحدث الغنوشي عن الجد المشترك بين حركة النهضة والدستوريين فهو يعي جيدا أن الطرح من شأنه أن يخلق من جديد جدالا قديما لم يكن بالإمكان إثارته لولا موت بورقيبة ورحيل حكم بن علي وقيام الثورة وحصول الانقسام الواسع في صفوف العائلة الدستورية، إلى جانب المنعرج الدقيق الذي لا يزال يمر به حزب نداء تونس. وفي هذا السياق يفهم الرد القوي لمحسن مرزوق على الغنوشي من جهة وعلى الأصوات الندائية التي تعمل على بناء العائلة الدستورية ومن بينهم خالد شوكات من جهة أخرى. أكد مرزوق بصفته الأمين العام لحزب "نداء" أن الحبيب برقيبة هو جدّ الندائيين وليس عبد العزيز الثعالبي. وأضاف "نحن بورقيبيون جدد وليس للندائيين جدّ مشترك مع أيّ طرف سياسي يختلف معه فكريا وأيديولوجيا".

في حديث محسن مرزوق رسائل عديدة، من بينها اعتقاده بأن مسألة تغيير الجد سيكون له تداعيات مباشرة على وحدة الحزب الذي يتولى أمانته العامة حاليا، وثانيا من شأن ذلك أن ينسف الفكرة التي يسعى إلى تجسيدها على الصعيد الأيديولوجي من خلال مقولة "بورقيبيون جدد" على نمط "الأتاتركيون الجدد" الذي يعملون في تركيا على ضمان استمرارية تراث كمال أتاتورك من تجديد الخطاب وبعض المضامين. أما الرسالة الثالثة المستبطنة في تصريحات مرزوق تتعلق باليساريين الذين التحقوا بعملية تأسيس حزب نداء تونس والذين قاموا بجهد لا بأس به عندما تصالحوا مع البورقيبية، لكنهم ليسوا مستعدين اليوم أن يلقوا بأنفسهم في مسار أيديولوجي غير مضمون النتائج عندما يقبلون بأن يصبحوا أحفادا للثعالبي.

 

هكذا يتبين أن قصة "تصحيح النسب" ليست مجرد تعديل في اللغة بقدر ماهي مدخل لإعادة خلط الأوراق وبناء ميزان قوى جديد. لهذا علينا أن ننتظر قليلا لنستشرف ما ستؤول إليه الجولة الأولى من هذا الصراع، ولكن الأهم من الجانب السياسي هو تحويل هذه المناسبة للقيام بمراجعات فكربة وتاريخية على أكثر من صعيد.