قرية الهراهرة: فقر وتهميش وانتشار مرض الحصبة في صفوف الأطفال

قرية الهراهرة: فقر وتهميش وانتشار مرض الحصبة في صفوف الأطفال

على جانبي الطريق الوطنية عدد 13 الرابطة بين مدينتي سبيطلة والقصرين، تقبع منطقة ''الهراهرة'' الراجعة بالنظر ترابيا الى معتمدية سبيطلة، هي منطقة فلاحية بامتياز يناهز عدد سكانها السبعة ألاف نسمة أغلبهم يعيشون تحت وطأة الفقر والخصّاصة ، جل أبنائها منقطعون عن الدراسة يعملون جنبا إلى جنب مع أوليائهم في بيع ما جادت به أراضيهم من خضر وغلال على قارعة الطريق في الشتاء والصيف، غير عابئين بلسعات البرد وحرّ الشمس حفاة عراة همهم الوحيد كسب بعض الدنانير لتوفير لقمة عيشهم .


العم أحمد الهرهوري البالغ من العمر 65 سنة أحد متساكني المنطقة تحدث بمرارة لمراسلة وكالة تونس افريقيا للأنباء بالقصرين، عن ''الهراهرة'' قائلا : ''هي منطقة معدّمة تناستها حكومات ما قبل الثورة وما بعدها وغيّبتها السلطات المحلية والجهوية من مخططاتها وبرامجها التنموية وتركت أبناءها يتخبطون في الفقر والجهل والمرض''.

يصمت العم أحمد قليلا ليتغلب على غصّة البكاء التي إنتابته فجأة ثم يردف قائلا: " نحن نعيش على هامش الحياة، أبناؤنا ماتوا بين أيدينا بسبب مرض الحصبة الذي إنتشر في منطقتنا مؤخرا، ومازالوا يموتون لأن جل أوليائهم لم يجروا لهم التلاقيح الضرورية عند ولادتهم، كما عجزوا بحكم قلة ذات اليد عن التكفل بمصاريف علاجهم الباهضة، في ظل عدم إمتلاكهم لشهائد علاج سواء المجانية أو ذات التعريفة المنخفضة .

ويضيف العم أحمد:" الفقر يحيط بنا من كل جانب، حتى أرضنا الخصبة المعطاء لم نتمكن من إستغلالها كما ينبغي بسبب ارتفاع تكاليف كهربة الآبار وعدم قدرتنا على توفير مصاريف خدمتها من حراثة وبذر ومداواة ... "

وبكلمات متقطعة ونظرات حجبها الدمع ، حدثنا محمد بن إبراهيم الهرهوري متساكن ثان من "الهراهرة " عن ظروفه الإجتماعية القاسية بعد بيعه أرضه مورد رزقه الوحيد لتأمين مصاريف علاج زوجته التي تعاني من مرض في القلب ومصاريف مواعيدها الطبية المتكررة في العاصمة .

وعن قوت يومه أكد محمد أن أبناءه المنقطعين منذ سنوات عن الدراسة لقلة ذات اليد هم الذين يعملون ليلا نهارا على تأمينها من خلال بيع ما جمعوه من نبتة " الجرجير أو الحارة " البرّية من أراضي بعض الأقارب والجيران.

ويضيف ذات المتحدث بعد أن استظهر بأوراق زوجته المريضة ليستعرضها أمام أهالي منطقته الذين تجمعوا حول مراسلة (وات) للحديث عن مآسيهم قائلا بصوت حادّ وبيدين مرتعشتين، " نحن منسيون من قبل المسؤولين في الدولة، لم يكلف أحد منهم خاطره لزيارة منطقتنا المنكوبة ليعاين فقر أهلها عن كثب، ويستمع الى مشاغلهم ومطالبهم البسيطة التي لا تتعدى حصولهم على شهادة علاج ومستوصف وتعبيد مسلك أو طريق وتحسين مسكن ".

ثم يصمت محمد ليسترجع قواه ويضيف " زيارة منطقتنا فقط تكون خلال فترة الحملات الانتخابية حيث تحج الينا الوفود من كل حدب وصوب لشراء أصواتنا مقابل بضعة أكياس من المؤونة التي تزيدنا ألما على ألمنا لأن أغلبنا يقبلها بسبب فقره وجهله .

يقاطعه جاره أو قريبه رشيد الهرهوري ليدّعم قوله: "جل متساكني "الهراهرة " فقراء لا مورد رزق قار يحفظ كرامتهم ، أغلبهم لا يملك شهادة علاج، تفتقر منطقتنا إلى أبسط ضروريات الحياة، فلا مركز صحي بها نلجأء اليه حين نمرض، ولا بنية تحتية ملائمة تحمينا من الأمطار وتسهل مرورنا الى المناطق المجاورة لبيع منتوجنا الفلاحي، فكل المسالك والطرقات مهترئة وسرعان ما تنعزل حين تمطر، ولا رياض ولا نوادي أطفال تحتضن أبناءنا وتحميهم من مخاطر الشوارع ولا معاهد يواصل فيها من حالفه حظ النجاح دراسته باستناء مدرستين إبتدائتين يتيمتين ".

معظم الشهادات التي أوردها متساكنو ''الهراهرة'' عبّرت عن تاريخ وحاضر معقد لمنطقة تجمع المتناقضات، فأرضها تعد من أكثر الأراضي خصوبة بالجهة، ومعظم أهلها متميزون جهويا ووطنيا في مجال صناعة الجبة والبرنس والقشابية ، ورغم ذلك فنسب البطالة والأمية والفقر متفشية بها، وزادها مرض الحصبة الذي إنتشر مؤخرا في صفوف عدد كبير من أطفالها وشبابها بؤسا على بؤس.

وللمتسائل هنا أن يتساءل عن الحلول الكفيلة بإخراج هذه المنطقة من وضعها المتردي على مختلف الاصعدة ، الحل يكمن، وفق العم الأزهر الحمامي، أحد متساكنيها المتقاعدين من إحدى الشركات البترولية ، هو اعلان منطقة ''الهراهرة'' منطقة منكوبة وما يتطلبه ذلك من تدخلات عاجلة وهبة وطنية من قبل كبار المسؤولين في الدولة والمنظمات والجمعيات المدنية لإنتشال أطفالها من الجهل ومساعدتهم على استكمال دراستهم ومنع أوليائهم من تشغيلهم ، وتمكين العائلات غير المتمتعة بشهائد علاج من حقهم في هذه الشهائد التي حفيت أقدامهم في سبيل الظفر بها وإنقاذ مرضاهم من شبح الموت.

ويدعو عم الازهر إلى تنظيم حملات تحسيسية وتوعية، وقوافل صحية متواصلة بالمنطقة لتحسيس متساكنيها بأهمية التنظيم العائلي لأن أقل عائلة ب"الهراهرة " بها 8 أطفال، وفق قوله، دون الحديث عن العائلات التي يفوق عدد أطفالها 11 طفلا وتمكين أبنائها المتخلفين عن لقاح الحصبة وغيرها من الأمراض الأخرى الخطيرة من التلاقيح الضرورية ، ومساعدة فلاحيها وتمكينهم من منح خصوصية لخدمة أراضيهم ، مع العمل على تيسيير عملية بيع منتوجاتهم الفلاحية والحرفية بأثمان مناسبة تمكنهم من تحسين معيشتهم عكس ما يتم حاليا عبر سلبهم منتوتاجهم بأخس الأثمان من قبل الانتهازيين، حسب قوله .
والي القصرين سمير بوقديدة أقرّ بأن منطقة " الهراهرة " منطقة كباقي مناطق الجهة تعاني الفقر، مؤكدا أن المساعي والمجهودات متواصلة في سبيل تقديم الاحاطة الاجتماعية لمتساكني هذه المناطق من الفئات الضعيفة ومحدودة الدخل ولتحسين بنيتهم التحتية مع ايلاء العناية اللازمة لمنطقة " الهراهرة " من حيث الإحاطة الطبية بأبنائها المصابين بفيروس الحصبة غير المتمتعين بشهائد علاج عبر إيوائهم بالمجان في المستشفى الجهوي، وتنفيذ حملة تلقيح واسعة ضد مرض الحصبة لجميع تلامذة المنطقة وأبنائها غير الملقحين .

وذكر، بالمناسبة، أن الأرقام المصرّح بها حول المتوفين بمرض الحصبة بمنطقة " الهراهرة " في بعض وسائل الاعلام وشبكات التواصل الإجتماعي والمقدرة ب25 حالة وفاة جراء الحصبة هي أرقام "غير رسمية"، وفق تقديره، ويمكن أن تكون صحيحة أو العكس لأن المستشفى الجهوي معني بالحالات التي إستقبلها وقام بايوائها وعلاجها فقط ولا دخل له بالحالات التي توفيت في المنازل.

وقال الوالي، في هذا الخصوص، إن عدد الحالات المصابة بمرض الحصبة التي سجلها المستشفى الجهوي بالقصرين منذ جانفي الماضي الى غاية يوم الاربعاء المنقضي بلغت 680 حالة توفي منها 11 أغلبهم أطفال ، مشددا على أن حملات التلقيح متواصلة للحد من إنتشار هذا الفيروس والسيطرة عليه وأنه تم حاليا تلقيح حوالي 4 الاف شخص من جملة 6 الآف أشخاص مستهدفين بالجهة .