مسار الحلّ في سوريا تُمسك بناصيته موسكو

مسار الحلّ في سوريا تُمسك بناصيته موسكو

العملية العسكرية الروسية في سوريا هي نتيجة تحوّل كبير في موازين القوى الدولية بين تحالف واشنطن من جهة، وبين ما يمكن تسميته بالتحالف المعادي للهيمنة الأميركية من جهة أخرى (روسيا، الصين، إيران، المقاومة، «البريكس»..) فالإدارة الأميركية التي تستدير شرقاً من الأطلسي إلى الهادئ، تنجرّ في حقيقة الأمر تحت ضغط متغيرات فعلية أنتجتها مرحلة ما بعد الحرب الباردة، التي بدّلت مراكز الثقل بين الطرفين في ركائزها الاقتصادية والسياسية والديموغرافية.. والحربية أيضاً (الاتجاهات العالمية ــ 2030، وكالات الاستخبارات الاميركية الـ16، 2013). فما يُتهم به باراك أوباما لناحية كونه «متردداً وضعيفاً» في سوريا، هو نتيجة ضعف قدرات الولايات المتحدة الفعلية في الهيمنة العسكرية التي لا يُشبع تراجعها جِرَاء الذئاب وسَرْحاناتها. وما كان يُعرف باسم «باكس امريكانا» في زعامة واشنطن العالمية، انتقل في ثقله الأساس من التدخّل العسكري المباشر إلى ثقل تعظيم ايديولوجية الديموقراطية الاميركية (أشكال متعددة من أنواع السلطة الفيدرالية والتوافقية والانفصالية بموازاة إلغاء دور الدولة وجغرافيتها السياسية السابقة)، التي تلبي بشكل أو آخر مصالح وطموحات الطبقات السياسية الحاكمة في غالبية البلدان.


في هذا السبيل تخوض الولايات المتحدة حروبها عبر قوى محلية وإقليمية تدافع عن مصالحها الخاصة المرتبطة بمنظومة النموذج المعولم، فتدافع لذلك بحميّة أشدّ عن توسّع واشنطن و «الحلف الأطلسي» بالوكالة. فروسيا التي تراءى لها الانضمام الى «الحلف الأطلسي» في مرحلة ما بعد الحرب الباردة التي تسود فيها ايديولوجية اللحاق بركب النموذج، اصطدمت بأن واشنطن تغيّر أشكال التوسّع الامبريالي، لكنها لا تغيّر تقاليد الانتقام من دولة هزمتها في الحرب كهزيمة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة أو هزيمة المانيا واليابان في الحرب العالمية الثانية. ولم تحارب واشنطن غريمتها وجهاً لوجه، إنما استندت إلى أوروبا الغربية وإلى دول المحيط الحيوي الروسي مطيّة في توسّعها. هذا التوسّع استند تحديداً إلى توسّع «الديموقراطية» الاميركية عبر الاتحاد الاوروبي في بلدان أوروبا الشرقية وفي «رابطة البلدان المستقلّة»، واستند أكثر إلى التحاق هذه الدول بالنموذج النيوليبرالي فيما يُسمى «شراكة» هذه البلدان مع أوروبا (فتح الاسواق والتجارة والاستثمار). وفي هذا الاطار من «الانفتاح» الاقتصادي والحيوسياسي، توسّع «الأطلسي» بنشر الدرع الصاروخي في المجر وتشيكيا ثم اتجه إلى بلغاريا وبولندا والى اذربيجان وجورجيا في القوقاز، وفي هذا السياق قفزت واشنطن فوق الاتحاد الأوروبي في انقلاب أوكرانيا حين ركلت فيكتوريا أولاند الاتحاد الاوروبي في قولها الشهير «فلتذهب أوروبا إلى الجحيم».
روسيا المكلومة في يوغوسلافيا السابقة والعراق، وقت حوّلتها هزيمة الانهيار السوفياتي إلى «خرقة» في أيدي مافيات النهب والدعارة، أُسقٍطَ في يدها الليبية برغم «استفاقة بوتين» في «مؤتمر ميونيخ للأمن العالمي 2007». فهي التي أرغمها توسّع «الأطلسي» على التدخّل العسكري في جورجيا وفي القرم، لا تتصل بثقافة العودة إلى الحرب الباردة. إنما تقوم ثلاثيتها القويّة (الكنيسة، والحركة القومية، وطبقة رجال الأعمال) على العودة إلى خاتمة الحرب العالمية الثانية في التوافق مع الغرب على «يالطا» بحسب بوتين، وعلى إدارة الشؤون الدولية في مجلس الأمن. فهي تتقاطع مع واشنطن وأوروبا كدولة ريع وطاقة في نموذج السوق الحرّة، لكنها تتنافس من داخل النموذج كدولة يعتمد ثقلها الجيوسياسي على القوّة العسكرية وعلى تراث ثقافي وديني قابل لجذب الأقاليم إلى اليابسة من بين أنياب «عدوانية الجزر والمحيطات»، وفق مقولة أبو النظرية الأوراسية (ألكسندر دوغين، روسيا والفكر السياسي في القرن الحادي والعشرين، منشورات آرماغنا، باريس، 2012). فقواعد الاشتباك بين الطرفين لا تصل بهما تحت سقف النموذج إلى معركة كسر عظم في أوكرانيا أو في سوريا، لكنها لا تصل بهما أيضاً إلى اتفاق على توزيع الأدوار كما يُشاع بشأن التدخل الروسي في سوريا، إنما تجري معاركهما في حدود العض على الأصابع داخل مجرى من التنافس محدود عمقه واتساعه مسبقاً في المدى المنظور على الأقل.
ففي هذا المسار، تتيح واشنطن هامشاً من حرية التحرّك أمام سلطات حلفائها لحماية نفسها بنفسها، كما تتيح هامشاً من حرية التحرّك لقوى مناهضة السلطات في إطار تجديد هواء السلطة. وعلى هذا التحوّل عدّلت الإدارة الأميركية «الشراكة الاستراتيجية» الأميركية ــ الخليجية (روزفلت ــ عبد العزيز في بحيرة المرّة، 14/ 2/1945) في اتجاه حمايتها من عدوان خارجي من دون حمايتها من مخاطر سياساتها الداخلية وخياراتها الإقليمية (قمة كمب ديفيد مع زعماء الخليج بغياب الملك سلمان احتجاجاً، 14/5/2015). وهو متغيّر يمتد إلى إسرائيل أيضاً كما عبّر الاتفاق النووي بغير شروط «السلام» والمرور إلى الغرب ذهاباً وإياباً، بحسب الاستراتيجية الاميركية السابقة في «الانفتاح» على الدول العربية. لكن هذا الهامش لا يُطلق حرية حلفاء واشنطن في «كعم» خطوطها العريضة لزعامة التحالف، كما حاولت تركيا في إنشاء حديقتها الخلفية في سوريا، التي تراها واشنطن «تمرّداً» تركياً يتجاوز خيارات الزعامة لخريطة الجغرافيا السياسية في سوريا والمنطقة، أو حين أوقفت واشنطن «انفتاح» الحكومة العراقية على موسكو ولا سيما في طلب الضربات الجوية الروسية التي تراها واشنطن فوق السقف المتاح لحليفها العراقي. في المقابل، تنسج موسكو على المنوال نفسه مع حلفائها ومع حلفاء واشنطن أيضاً. في هذا الصدد، ذهب الكرملين في خيوطه مع حلفاء واشنطن إلى التفاهم مع السعودية (ومن خلفها واشنطن) لتمرير قرار تفويض السعودية في حصار اليمن براً وبحراً وجواً وفي حرقه بالطائرات، كسابقة في تفويض بلد من خارج مجلس الأمن بمهمة عدوانية، هي حكر على أعضائه «في حماية الأمن الدولي». وكان من المفترَض أن تبادل السعودية موافقة موسكو على «تضحية استثنائية» بـ «مشاركة» موسكو في مسعاها للحل في سوريا، مقابل الاعتراف الروسي بالسعودية كدولة إقليمية مسؤولة. لكن السعودية ظنت أنها تأخذ بوتين بـ «مكيدة بدويّة» قابلة لتكرار «عاصفة الحزم» في سوريا، أو حتى يمكن شراؤه «بالبخشيش».
أُرغمت موسكو على التدخل العسكري في سوريا بعدما انقطعت بها السبُل مع واشنطن وحلفائها بحثاً عن حلّ يوقف «تهديد أمنها القومي»، بحسب تعبير بوتين ــ مدفيديف. وهذا الأمن القومي لا يقتصر في سوريا على احتمال عودة الآلاف من المقاتلين إلى المحيط الحيوي الروسي فحسب، إنما هو أساساً إصرار واشنطن وحلفائها على تغيير موقع سوريا الجيو ــ سياسي في استدارة كاملة نحو الغرب وقطع الطريق على موسكو في المتوسط وفي المنطقة العربية. وكذلك قطع الطريق عليها في غاز الساحل السوري و «الأنبوب العربي» (القطري ــ السعودي...) وفي مدّ أنبوب روسي آخر من سوريا إلى أوروبا لا يقيّد موسكو بتركيا. فضلاً عن ذلك تتخوّف روسيا من سقوط سوريا في أيدي تحالف واشنطن التركي ــ السعودي ــ القطري، ما يزيد الخلل في المنطقة العربية لمصلحة واشنطن التي لن تفوّت فرصة التوسّع ولا سيّما عبر تركيا (بامتداداتها السورية) إلى القوقاز والقرم.
دخول موسكو «لحماية أمنها القومي» في سوريا، لا يتحمّل تفريطها بسلطة الأسد وما بقي من «مؤسسات الدولة» ولا سيما الجيش والأمن. في هذا الأمر تتباين موسكو مع واشنطن التي تذهب مع حلفائها إلى المراهنة على وضع سوريا تحت وصاية دولية ــ إقليمية لإدارة «المرحلة الانتقالية» (مؤتمر دولي على أساس جنيف) في اتجاه تغيير النظام وموقع سوريا بترميز «رحيل الأسد». لكن موسكو تتقاطع مع واشنطن في مسعى التوازن «بين المكوّنات» في سوريا ضمن ما يُسمّى «وحدة الأراضي السورية» بحسب «الإنجاز» الاميركي في العراق الذي يوصف أيضاً بالمحافظة على وحدة الاراضي العراقية بل يوصف بالانتقال «الديموقراطي» وعلمانية الدولة وسيادتها.. إلخ ففي العراق بات الإقليم الكردي أمراً واقعاً. وإلى جانبه تسعى واشنطن إلى إنشاء إقليم في شمالي سوريا تأمل أن تتبناه «المعارضة المعتدلة» (الجماعات المتنافسة مع «داعش» بما فيها «النصرة» وحلفاؤها) بدعم من الحلفاء، للسيطرة على منطقة «الاقليم السني»، كما تأمل في الأنبار ونينوى في العراق. غير أن هذه المعضلة دونها حواجز قد يدخل تجاوزها في حقل المعجزات. أهمها أن هذه الجماعات التي تعوّل عليها واشنطن في تغليب الصراع على السلطة وعلى النفوذ مع «داعش»، يغلب عليها الصراع مع النظام السوري للوصول إلى «داعش» لاحقاً كما أقرّ اوباما في تفسير تلاشي معارضته الخاصة التي بقي منها 4 ـ 5 عناصر. فهي أقرب إلى التحالف الميداني مع «داعش» (وربما الجبهوي أيضاً) في نقل المعارك من الشمال إلى «سوريا النافعة» في مواجهة روسيا وحلفائها. والمهم الآخر في معضلة واشنطن هو تباين ذي شأن مع حلفائها التركي ــ السعودي ــ القطري التي تغذي جماعاتها المسلّحة وتتمايز مصالحها المباشرة في سوريا (الأنبوب العربي والزعامة العربية في وجه إيران) عما يمكن أن تساوم عليه واشنطن بشأن إمساك موسكو بناصية السلطة في سوريا.
تركيا ذهبت بعيداً في المراهنة على تغيير موقع سوريا في إسقاط النظام، فبات التراجع أكثر كلفة من المضي قدماً في سوريا أملاً بالاستناد إلى موقع عربي يتيح لها توسّع النفوذ والمصالح في المنطقة العربية، ويتيح لها التوجّه شرقاً كما يتيح الاستناد على امتدادات تفتح لها طريق الغرب. والسعودية التي تصارع إيران في سوريا واليمن والعراق تعويلاً على منع تمدد النفوذ الإيراني في «أمن الخليج»، دخلت في مسار إقليمي يُفضي تراجعها عنه إلى ارتدادات عنيفة، قد يكون أشدّها انفجار تيارات «القاعدة» و «داعش» في السعودية. بيد أن موسكو الساعية إلى تسوية إقليمية مع واشنطن تتوازن فيها اليد الروسية في سوريا مقابل اليد الأميركية في العراق، لا تستطيع «وحدها هزيمة الإرهاب» (بوتين) إنما تستطيع نقل المعركة إلى المنطقة من العراق إلى انقرة واليمن والرياض وربما أبعد، ولكل شيء آفة من جنسه.
تحت سطح الحمم الملتهبة التي تحرق المنطقة، بركان هائج نتيجة زلزال كوني يعصف بمنظومة الدول والحدود والسياسة والجغرافيا الوليدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فالاحتراب بين القوى الإقليمية في «إدارة النزاعات»، تعويلاً على الهروب من حمم البركان لا يذهب بعيداً.