تمويت السياسة في مصر

تمويت السياسة في مصر

ظلَّ النظام المصري في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك يقوم بمحاولات مستميتة من أجل إبعاد المواطنين عن السياسة إما بالترهيب أو باستخدام العنف من خلال أجهزته الأمنية، حتى صارت مقولة "إمشي جنب الحيط" التعبير الأبرز عن تلك المرحلة.. وقد شكَّل استفتاء آذار/ مارس2011 لتعديل الدستور، عقب أشهر من الثورة، نقطة فاصلة من خلال مشاركة حوالي 41 في المئة (نحو 45 مليون ناخب)، كما الانتخابات البرلمانية في العام نفسه والتي تجاوزت نسبة المشاركة فيها حوالي 60 في المئة عاكسة وجود زخم سياسي حينها.


أخذت تلك النسب في التناقص بشكل كبير في الاستحقاقات الدستورية التالية، وهو نتاج حالة الإحباط التي سادت في ظل حكم الإخوان. فتمّ عزلهم عن السلطة وتصعيد الرئيس السيسي باعتباره المُنقذ والمُخلّص الذي لا يحتاج إلى برنامج انتخابي كي يفوز في الانتخابات الرئاسية أمام مرشح واحد فقط هو حمدين صباحي. قناعة الرئيس السيسي آنذاك بعدم حاجته لبرنامج انتخابي، تعكس تمويت السياسة، فهو قادم إلى السُلطة في مهمة شعبية بحسب حديثة آنذاك، وأنه ليس رجل سياسة. نسبة مشاركة المواطنين في الانتخابات الرئاسية عام 2014، وبالرغم من الحملات الإعلامية المكثفة التي طالبت المواطنين بالنزول والمشاركة (من أجل عدم عودة الإخوان الذين تم استخدامهم كفزّاعة)، بلغت حوالي 47 في المئة، وهي نسبة أقل من المأمول أو المتوقع آنذاك.
ومؤخراً شهدت مصر الاستحقاق الدستوري الثالث من خارطة الطريق، المتعلق بالانتخابات البرلمانية، والذي بدأ بحملات إعلامية كبيرة تظهر البرلمان المقبل كأداة من أجل تعديل الدستور ومنح صلاحيات أكبر للرئيس. وقد أعلن الرئيس قبل إجراء انتخابات البرلمان عن رغبته في وجود قائمة انتخابية واحدة وموحدة تتنافس فظهرت قائمة "في حب مصر" والذي أعلن منسقها العام اللواء سامح سيف اليزل أنها لا تملك برنامجاً انتخابياً، وأن جُلّ عملها هو دعم الرئيس في البرلمان.. ما أدّى إلى تراجع مشاركة المواطنين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة إلى 28.3 في المئة، خاصة في ظل عدم تحقيق ما بُشّر به، على المستويات السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية، وبالتزامن مع استمرار حملات الاعتقال للآراء غير المسايرة للنظام، أبرزها مؤخرا هو القبض على الصحافي والحقوقي هشام جعفر وعلى الباحث إسماعيل الإسكندراني، بالإضافة إلى حملة الاعتقالات العشوائية للكثير من الشباب. السياسة في مصر تُواجَه إذاً بحصار شديد مما أدى إلى انحسارها تدريجيا ثم خبوّها بفعل فاعل، بينما ما زال النظام يقدم نفسه باعتباره نظاماً سياسياً لا يملك برنامجاً لكنه يملك قوة وشرعية أساسها أنه بديل عن الإخوان وأنه لا يوجد بديل له. ومن المتوقع ألا يشهد البرلمان الجديد أيّ معارضة حقيقية بل أن يتنازل عن قدر كبير من صلاحياته الدستورية.
بلغ التضييق على الحريّات مداه، بدواعٍ بدأ الناس يملّونها، وهي قائمة بالأساس على اعتبار أي فعل يقوم به النظام كأنه حماية للوطن من الإخوان. تمويت السياسة بهذا الشكل الذي يجعل دولة بحجم مصر لا يوجد فيها أحزاب قوية أو شخصيات سياسية بارزة أو منافسة سياسية حقيقية أو تداول فعلي للسُلطة.. قد يصبح مع الوقت في صالح الإخوان أنفسهم، الذين إن عادوا إلى اللعبة السياسية مرة أخرى، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فلن يجدوا أمامهم أي بديل سياسي قوي يستطيع منافستهم!