«تكلّمي أيتها الذكريات» لنابوكوف: سرير يطير ليلاً الى روسيا

«تكلّمي أيتها الذكريات» لنابوكوف: سرير يطير ليلاً الى روسيا

«هناك ليال يحدث لك فيها أنك ما إن تنام، حتى يطير بك السرير نحو روسيا». هذه العبارة هي سطر من قصيدة كتبها فلاديمير نابوكوف، الذي عُرف دائماً بأنه أكثر الكتاب الأجانب أميركيةً، الى درجة اعتقد معها الملايين من قراء رواياته أنه نسي روسيا تماماً. ونابوكوف كان محقاً في نسيان روسيا، هو الذي نفى نفسه منها باكراً جداً، أي حين كان في العشرين من عمره، عامان بعد اندلاع الثورة البولشفية التي لم يكن هو ولا كان أبواه من النوع الذي يمكن أن يأتلف معها. ومن هنا كانت الهجرة النهائية، جغرافية أول الأمر، الى ألمانيا فلندن فالولايات المتحدة. ثم لغوية بعد ذلك، إذ بعد نصوص أولى كتبها نابوكوف بالروسية ولا سيما خلال مرحلته الألمانية، عاد وكتب بالإنكليزية. والطريف أنه كما أن صمويل بيكيت سيكتب مسرحياته بالفرنسية ونثره وقصائده بالإنكليزية، سيكتب نابوكوف شعراً بالروسية ونثراً بالإنكليزية. فإذا أضفنا الى هذا هواية نابوكوف كجامع ومكتشف للفراشات، يمكننا أن نعتقد أن منافيه كانت من التعدّد بحيث تطغى عليه كوزموبوليتية مطلقة. لكن من قرأ واحداً من أجمل كتب نابوكوف، وهو سيرته الذاتية التي وضع صيغتها للمرة الأولى عام 1947 ثم عاد وطبعها وعدّلها، مضيفاً إليها بعد ذلك، سيكتشف بكل يسر وهدوء أن نابوكوف لم يهجر روسيا أبداً... بل حملها معه حيثما حلّ وارتحل. صارت هي ذكرياته وحياته الداخلية. ومن هنا، لم يكن غريباً أن يعود بعد طبعات أولى من تلك السيرة الذاتية، ليعطيها عنواناً جديداً هو «تكلمي... تكلّمي أيتها الذكريات».

 


> هنا، وقبل الحديث عن هذا الكتاب، قد يكون من الأمور ذات الدلالة أن نلاحظ كيف أن فلاديمير نابوكوف، لم يترجم بنفسه، من بين عشرات النصوص التي كتبها بالإنكليزية، الى اللغة الروسية سوى عملين له: رواية «لوليتا» وهذا الكتاب. فعمّ تتحدث هذه السيرة الذاتية؟ أولاً، لا بد من التوضيح: ليس هذا الكتاب سيرة ذاتية متكاملة تروي حياة صاحب «لوليتا» و «آدا». بل هو كتاب يكتفي الكاتب بأن يتحدث فيه عن طفولته وعن سنوات منفاه الأوروبي. ومن هنا، اتخذ الكتاب هذه النكهة الروسية التي يكاد القارئ يحسّها في كل صفحة وكل كلمة. ونابوكوف يخبرنا في تقديمه الكتاب، أنه «مجرد توليف بين ذكريات شخصية ربطت في ما بينها لتمتدّ جغرافياً من سانت بطرسبرغ (عاصمة روسيا ما قبل الثورة)، الى سان نازير (مرفأ في الغرب الفرنسي عاش فيه نابوكوف ردحاً من الزمن خلال سنوات المنفى الأولى)، وزمنياً من آب (أغسطس) 1903 الى أيار (مايو) 1940». إذاً، ما لدينا هنا سبعة وثلاثون عاماً متواصلة، حتى وإن كان ثمة بين فصل وآخر، ولوج في سنوات تلي ذلك، وأحياناً تسبقه. غير أن الفترة التي ركّز عليها نابوكوف حديث ذكرياته هي تلك الفترة، التي انتهت يوم 28 أيار 1940، بهجرته الى الولايات المتحدة، حيث كانت أول انطلاقة له هناك ترجمة روايته «الآنسة أو» ونشرها. لكن هذا «الحدث الأميركي الكبير» في حياة نابوكوف كان لا يزال بعيداً في الزمن الذي بدأ يروي لنا أحداثه. الزمن الذي يطل علينا في لغة شديدة السوداوية والتشاؤم، إذ نراه يفتتح الفصل الأول قائلا: «يتأرجح المهد فوق هاوية الفراغ. وها هو الحس العام ينبئنا بأن وجودنا ليس سوى بصيص الضوء القصير الآتي من شق بين أبديتين من الظلام. وعلى رغم أن هاتين الأبديتين توأمان، يرى المرء في شكل عام أن هاوية ما قبل ولادته، أكثر رزانة ودعة من الهاوية التي تنتظره ولا يتوقف عن التقدّم نحوها. وأنا، على أية حال، أعرف مراهقاً كارهاً للزمن، شعر بنوع من الرعب، حين شاهد للمرة الأولى أفلاماً قديمة صُوّرت في بيته العائلي قبل أسابيع من ولادته...». وطبعاً، لسنا في حاجة هنا الى القول أن هذا المراهق كان هو نفسه فلاديمير نابوكوف.

> غير أن الكتاب، لا يواصل طريقه سوداوياً مرعباً على هذه الشاكلة، ذلك أن إنساناً وكاتباً من طينة نابوكوف كان من طبعه إشاعة الأمل من حوله والنظر الى الدنيا والبشر، نظرة أقل قتامة من تلك التي تبدو تلك المقدمة واعدة بها. أو، لنقل على الأقل إن نابوكوف ما كان في إمكانه أن يحمل، في هذا الكتاب، أو في أي كتاب له غير هذا، سوى الروح الروسية الأصيلة: الروح المنطلقة المتطرفة، التي تكاد تكون نموذجها الصورة التي رسمها سلف نابوكوف الكبير دوستويفسكي للأب كارامازوف (في الرواية التي يحمل عنوانها اسم «الإخوة كارامازوف»). وفي هذا المعنى، لا يكون نابوكوف سوى خلف كبير لذلك الرهط من الكتاب الروس الذين زينوا القرن التاسع عشر بقاماتهم، وغلب لديهم حب الحكي. ولعلّ أفضل ما يمكننا أن نذكّر به هنا، هو أن نابوكوف حين قال مرة، في محاضرة جامعية له، أن كل كاتب يضع نفسه وصورته، ولو مواربة، في شخصية أو أكثر من شخصيات عمله، سأله طالب: «... هل يمكننا أن نراك في «لوليتا»، مثلاً، من خلال شخصية هومبير هومبير؟»، فكانت إجابته: «أبداً... بل إنني أجد نفسي في شخصية «لوليتا» نفسها».

> والحقيقة، أن مثل هذه الإجابات والحوارات في حياة فلاديمير نابوكوف هي التي خلقت أطناناً من سوء التفاهم من حوله. ونحن لو حاولنا أن نفعل هذا كله، فلن تكفينا صفحات وصفحات، غير أن ما يمكن قوله بوضوح هنا، هو أن كتاب سيرة الكاتب هذا، يمكنه أن يزيل الكثير من ضروب سوء التفاهم، لأنه يعطي عن نابوكوف صورة تناقض تماماً كل الصور التي كانت له. وسيجمع الباحثون على أن صورته في هذا الكتاب هي الصورة الأصدق، لا سيما إذا تعمّقنا في تفاصيلها... ولعلّ المهم هنا أن نقول إن قراءة أعمال نابوكوف على ضوء ما يرويه لنا في هذا الكتاب (سواء عن ظروف كتابة بعضها، أو عن تفاصيل حياته الشخصية قبل أن يصبح كاتباً)، تضعنا في الحقيقة أمام صورة أخرى للأعمال في حدّ ذاتها. فقراءة «لوليتا» قبل حديث الذكريات هذا، هي غير قراءتها بعدها، وكذلك الحال مع بقية أعمال نابوكوف من «آدا» الى «الساحر»، ومن «اليأس» الى «ملك، ملكة وشاب»، ومن «أنظر أنظر الى الأرلكان» الى «الدون» و «النار التي تخبو». وهذا، على أي حال، ما أكده النقاد والباحثون، منذ بدأوا يتناولون «تكلمي... تكلمي أيتها الذكريات»، إذ صاروا ينصحون منذ ذلك الحين بتحرّي جذور أدب نابوكوف وهمومه في تكوينه الروسي، لا في مكتسباته نتيجة منافيه المتتالية والمتعددة. «في التقنيات فقط صار نابوكوف أوروبياً وأميركياً، وكذلك في أسلوب رسمه لتصرفات شخصياته، وعلاقاتها». أما في الروح وفي نفسيات الشخصيات، فإنه كان روسياً وظل روسياً حتى النهاية. وعلى أية حال، يمكن أن نقول اليوم إن نابوكوف كان كثيراً ما قال وردد منذ بداياته، أنه إذا كان يشجع قراءه على أمر، فإنه إنما يشجعهم على التوجّه صوب فكرة تقول أن «نجاحاته الكبرى لا ينبغي البحث عنها خارج الزمان والمكان السابقين لهجرته. إذ هنا فقط في روسيا طفولته، في عالم هلوساته الأولى وعالم غرامياته البدائية يكمن كل شيء وكل السر».

> ويقيناً أن من يقرأ «تكلمي... تكلمي أيتها الذكريات»، يخرج من الكتاب وهو على قناعة تامة بهذا. ولنضف هنا أن فلاديمير نابوكوف، المولود عام 1899 ليرحل عام 1977 في سويسرا، كان ابناً لعائلة بورجوازية ثرية، وقيّض لأبيه أن يعيَّن وزيراً في حكومة كيرنسكي الانتقالية قبل الثورة. لكن اندلاع الثورة أجبر الأب على الرحيل بأسرته الى القرم لاجئاً أولاً، ثم الى أوروبا الغربية بدءاً ببرلين ولندن. وعلى رغم أن نابوكوف عاش أميركياً بعد ذلك وصار مدرساً للأدب عموماً، وللأدب الروسي خصوصاً، فإنه أمضى سنوات عدة من حياته في سويسرا، حيث انكبّ هناك على جمع الفراشات، واصلاً ذات مرة الى العثور على فراشة غريبة سرعان ما أطلق عليها اسمه.